رضا البطاوى
عضو فعال
- المشاركات
- 2,708
- الإقامة
- مصر
نقد كتاب حكم المشي بين القبور بالنعال
الكتاب تأليف أبو أنس أشرف بن يوسف بن حسن وقد قال فى مقدمته أن كل المشى بين القبور حرام وهو قوله:
"اعلم – رحمك الله – أنه لا يحل لأحد أن يمشي بين القبور بالنعال , أيا كان نوع هذه النعال , فلا يختص الحكم بالنعال السبتية دون غيرها , إلا إذا كان للماشي عذر يمنعه من خلع نعليه فلا يخلعهما حينئذ , فإذا مشي في نعليه بين القبور أنكر عليه , و علم الحكم الشرعي , وإذا لم يمر بين القبور لا يخلع نعليه , مثل أن يقف عند أول المقبرة , ويسلم , و لا يدخل في المنع من لبس النعال بين القبور الخفاف "
ثم فصل الرجل ما أجمله فى مقدمته فقال:
"الكلام في هذه المسألة يتناول الأمور التالية :
أولا : حكم المشي بين القبور بالنعال :
اختلف أهل العلم رحمهم الله في حكم المشي بين القبور بالنعال على ثلاثة أقوال :
أ – القول الأول : التحريم وهو قول ابن حزم , كما في المحلى 5/136 , و لكنه خص التحريم بالنعال السبتية دون غيرها , كما سيأتي إن شاء الله في المسألة التالية , وإلشوكاني في نيل الأوطار 4/107، وإختار هذا القول من المعاصرين سماحة الشيخ ابن باز, كما في مجموع فتاويه 13/355 , و فضيلة الشيخ الألباني, كما في أحكام الجنائز صـ252 وانظر : التمهيد لابن عبدالبر 21/79 وإستدل أصحاب هذا القول بالدليل الأثري وإلدليل النظري :
أولا : الدليل الأثري :
وهو مارواه أحمد في مسنده 5/224,84,83 (21953,20788,20787,20784) , وإبو داود (3230) , وإبن ماجه (1568) , وإلنسائي (4/96) (2048) , عن بشير رسول الله (ص)قال: كنت أماشي رسول الله (ص)آخذا بيده , فقال لي : " يا ابن الخصاصية , ما أصبحت تنقم على الله ؟! أصبحت تماشي رسوله " – قال : أحسبه قال : آخذا بيده – قال : قلت : ما أصبحت أنقم على الله شيئا , قد أعطاني الله كل خير قال : فأتينا على قبور المشركين , فقال " لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا " ثلاث مرات , ثم أتينا على قبور المسلمين فقال : " لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيرا " ثلاث مرات يقولها , قال : فبصر برجل يمشي بين المقابر في نعليه , فقال : " ويحك يا صاحب السبتيتين , ألق سبتيتيك " مرتين أو ثلاثا , فنظر الرجل , فلما رأى رسول الله (ص)خلع نعليه قوله : " السبتيتين " السبتية – بكسر السين –: نسبة إلى السبت , وهي : جلود البقر المدبوغة بالقرظ , يتخذ منها النعال , سميت بذلك ؛ لأن شعرها قد سبت عنها ؛ أي : حلق وإزيل و قيل : لأنها انسبتت بالدباغ ؛ أى : لانت وإريد بهما النعلان المتخذان من السبت وإما حكم هذا الحديث فقد قال ابن القيم فى تهذيب السنن 9/40 : و قد اختلف الناس فى هذين الحديثين , فضعفت طائفة حديث بشير قال البيهقى : رواه جماعه عن الأسود بن شيبان , ولا يعرف إلا بهذا الإسناد , وقد ثبت عن أنس , عن النبى (ص), فذكر هذا الحديث وقال أحمد بن حنبل : حديث بشير إسناده جيد , أذهب إليه إلا من علة وأما تضعيف حديث بشير فمما لم نعلم أحدا طعن فيه ، بل قد قال الإمام أحمد : إسناده جيد و قال عبد الرحمن بن مهدى :كان عبد الله بن عثمان يقول فيه : حديث جيد ، و رجل ثقة كلام ابن القيم وقال الحاكم فى المستدرك 1/373 : صحيح الإسناد و وافقه الذهبى ، وإقره الحافظ فى الفتح 3/160 كذا فى المطبوع ، ولعلها : فصححت فإن السياق يقتضى ذلك
السنن الكبرى 4/80 انظر : المغنى 3/514، وموسوعة فقه الإمام أحمد 6/236 وإحتج بهذا الحديث ابن حزم فى المحلى 5/137 على تحريم المشى بالنعال بين القبور ، و فى مكان آخر من نفس الكتاب 5/142 ، 143على أنه لا يدفن مسلم مع مشرك و قال النووى فى المجموع 5/280 : رواه أبو داود وإلنسائى بإسناد حسن وإلحديث حسنه أيضا الشيخ الألبانى , كما فى تعليقه على سنن أبى داود و سنن ابن ماجه و قد ثبت عن الإمام أحمد أنه كان يعمل بهذا الحديث , فقال أبو داود فى مسائله ص 158 : رأيت أحمد إذا تبع الجنازة , فقرب من المقابر خلع نعليه وكذا فى (العلل) (3091) طبع بيروت و قال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن المشى بين القبور فى النعلين , فقال : أما أنا فلا أفعله , أخلع نعلى على حديث بشير فما كان أتبعه للسنة "
مما سبق يتضح أن الروايات كلها متناقضة وأنها معلولة الأسانيد والحديث الرئيسى فيها قولة تزكية للنفس هى " أصبحت تماشى رسول الله" وهو قوله فخر ومدح للناس تتعارض مع قوله تعالى " فلا تزكوا أنفسكم"
ومن المعروف أن مدافن المسلمين فى المدينة لم تكن بجوار مدافن الكفار لأن المسجد عندما أقيم وفقا للروايات أزيلت منه قبور المشركين وكان المسلمون حسب الروايات يدفنون فى البقيع
ثم قال أبوإنس:
"ثانيا : الدليل النظرى :
قال ابن القيم فى تهذيب السنن 9/41 : و من تدبر نهى النبى (ص)عن الجلوس على القبر , وإلاتكاء عليه , وإلوطء عليه علم أن النهى إنما كان احتراما لسكانها أن يوطأوا بالنعال فوق رؤوسهم , ولهذا ينهى عن التغوط بين القبور , وإخبر النبى (ص)أن الجلوس على الجمر حتى تحرق الثياب خير من الجلوس على القبر , و معلوم أن هذا أخف من المشى بين القبور بالنعال و بالجملة فاحترام الميت فى قبره بمنزلة احترامه فى داره التى كان يسكنها فى الدنيا ؛فإن القبر قد صار داره وقد تقدم قوله (ص)
( كسر عظم الميت ككسره حيا ))فدل على أن احترامه فى قبره كاحترامه فى داره ,وإلقبور هى ديار الموتى و منازلهم , و محل تزاورهم ، و عليها تنزل الرحمة من ربهم وإلفضل على محسنهم ,فهى منازل المرحومين , و مهبط الرحمة , ويلقى بعضهم بعضا على أفنية قبورهم يتجالسون ويتزاورون ,كما تضافرت به الآثار
و من تأمل كتاب القبور لابن أبى الدنيا رأى فيه آثارا كثيرة فى ذلك , فكيف يستبعد أن يكون من محاسن الشريعة إكرام هذه المنازل عن وطئها بالنعال وإحترامها ؟ ! بل هذا من تمام محاسنها , و شاهده ما ذكرناه من وطئها , وإلجلوس عليها , وإلاتكاء عليها ا هـ و زاد ابن قدامة فى المغنى 3/515 : ولأن خلع النعلين أقرب إلى الخشوع وزى أهل لتواضع اهـ
ب – القول الثانى : الجواز و به قال جمهور العلماء , وهو قول الحسن , وإبن سيرين , وإلنخعى , وإبى حنيفة , و مالك , وإلشافعى , و جماهير الفقهاء من التابعين و من بعدهم
قال جرير بن حازم : رأيت الحسن وإبن سيرين يمشيان بين القبور فى نعالهما وإحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخارى (1374,1338) , ومسلم 4/2201,2200 (2870) , عن أنس قال : قال رسول الله (ص): ( إن العبد إذا وضع فى قبره , وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم ) و وجه الاستدلال بهذا الحديث : أن هذا إخبار من النبى (ص)بما يكون بعده , وإن الناس من المسلمين سيلبسون النعال فى مدافن الموتى إلى يوم القيامة , على عموم إنذاره عليه السلام بذلك , و لم ينه عنه (ص), فلو كان مكروها لبين ذلك , وإلأخبار لا تنسخ أصلا , فصح إباحة لباس النعال فى المقابر
و قد أجيب عن هذا الاستدلال بجوابين , هما :
1- أن هذا إخبار من النبى (ص)بالواقع , وهو سماع الميت قرع نعال الحى , وهذا لا يدل على الإذن فى قرع القبور وإلمشى بينها بالنعال ؛ إذ الإخبار عن وقوع الشىء لايدل على جوازه , ولا تحريمه , ولا حكمه
قال ابن قدامة فى المغنى 3/515 : وإخبار النبى (ص)بأن الميت يسمع قرع نعالهم لاينفى الكراهة ؛ فإنه يدل على وقوع هذا منهم , ولا نزاع فى وقوعه وفعلهم إياه مع كراهته ا هـ
وقال ابن حجر فى الفتح 3/206 : وإستدل به على جواز المشى بين القبور بالنعال , و لا دلالة فيه قال ابن الجوزى : ليس فى الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر , و ذلك لايقتضى إباحة , ولا تحريما
2- أن هناك احتمالا أن يكون المراد من الحديث سماعه إياها بعد أن يجاوز المقبرة , وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال
قال الشوكاني في نيل الأوطار 4/107 : سماع الميت لخفق النعال لا يستلزم أن يكون المشي على قبر , أو بين القبور اهـ
ثم أجاب القائلون بجواز المشى بين القبور بالنعال على حديث بشير ابن الخصاصية بعدة أجوبة , نذكر منها :
1- قال الخطابى فى معالم السنن 1/276 : وخبر أنس يدل على جواز لبس النعل لزائر القبور , وللماشى بحضرتها , وبين ظهرانيها
فأما خبر السبتيتين فيشبه أن يكون إنما كره ذلك ؛ لما فيهما من الخيلاء , وذلك أن نعال السبت من لباس أهل الترفه والتنعم , قال الشاعر يمدح رجلا :* يحذى نعال السبت ليس بتوأم *
يعنى : قوله (ص): "إن العبد إذا وضع فى قبره , وتولى عنه أصحابه الحديث
* رقاق النعال طيب حجزاتهم يحيون يوم السباسب *
يقول : هم أعفاء الفروج , لايحلون أزرهم لريبة , والسباسب عيد كان لهم فى الجاهلية , فأحب (ص)أن يكون دخوله المقابر على زى التواضع ولباس أهل الخشوع ا هـ
وقد تعقب كلام الخطابى بأن ابن عمر كان يلبس النعال السبتية , ويقول: إن النبى (ص)كان يلبسها , وهو حديث صحيح قاله الحافظ فى الفتح 3/206 وقال ابن عبد البر فى التمهيد 21 /78 : ولا أعلم خلافا فى جواز لباس النعال السبتية فى غير المقابر , وحسبك أن ابن عمر يروى عن رسول الله (ص)أنه كان يلبسها , وفيه الأسوة الحسنة (ص) أ هـ
2- قال الطحاوى فى شرح معانى الآثار 1/510 بعد أن ذكر حديث بشير ابن الخصاصية , قال :فذهب قوم إلى هذا الحديث , فكرهوا المشى بالنعال بين القبور , وخالفهم فى ذلك آخرون فقالوا: قد يجوز أن يكون النبى (ص)أمر ذلك الرجل بخلع النعلين , لا لأنه كره المشى بالنعال بين القبور , لكن لمعنى آخر من قذر رآه فيهما يقذر القبور , وقد رأينا رسول الله (ص)صلى وعليه نعلاه , ثم أمر بخلعهما , فخلعهما وهو يصلى , فلم يكن على كراهة الصلاة فى النعلين , و لكنه للقذر الذى كان فيهما , وقد روى عن رسول الله (ص)ما يدل على إباحة المشى بين القبور بالنعال
حدثنا نصر بن مرزوق , قال :ثنا آدم بن أبى إياس , قال :ثنا حماد بن سلمة , قال : ثنا محمد بن عمرو , عن أبى سلمة , عن أبى هريرة قال : قال رسول الله (ص) فذكر حديثا طويلا فى المؤمن إذا دفن فى قبره : ((وإلذى نفسى بيده إنه ليسمع خفق نعالكم حين تولوا عنه مدبرين ))
حدثنا على بن معبد , قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء , قال : أنا محمد بن عمرو , فذكر بإسناده مثله حدثنا فهد , قال : ثنا أحمد بن حميد , قال : ثنا وكيع , عن سفيان , عن السدى , عن أبيه , عن أبى هريرة رفعه، مثله فهذا يعارض الحديث الأول إذا كان معناه على ما حمله عليه أهل المقالة الأولى , و لكنا لا نحمله على المعارضة , و نجعل الحديثين صحيحين , فنجعل النهى الذى كان فى حديث بشير للنجاسة التى كانت فى النعلين ؛ لئلا ينجس القبور , كما قد نهى أن يتغوط عليها أويبال , و حديث أبى هريرة يدل على إباحة المشى بالنعال التى لا قذر فيها بين القبور , فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معانى الآثار , وقد جاءت الآثار متواترة عن رسول الله (ص)بما قد ذكرنا عنه من صلاته فى نعليه , ومن خلعه إياهما فى وقت ما خلعهما للنجاسة التى كانت فيهما , ومن إباحة الناس الصلاة فى النعال ا هـ
وقد أجاب عن ذلك ابن حزم , وإبن القيم:قال ابن حزم فى المحلى 5/137 ,138 : و قال بعض من لا يبالى بما أطلق به لسانه , فقال : لعل تينك النعلين كان فيهما قذر
فمن قطع بهذا فقد كذب على رسول الله (ص)؛ إذ قوله ما لم يقل , ومن لم يقطع بذلك فقد حكم بالظن , و قفا ما لا علم له به , و كلاهما خطتا خسف , نعوذ بالله منهما
ثم يقال له : فهبك ذلك كذلك , أتقولون بهذا أنتم , فتمنعون من المشى بين القبور بنعلين فيهما قذارة ؟ فمن قولهم : لا
الخطة - بالضم -: شبه القصة وإلأمر يقال: سمته خطة خسف و خطة سوء لسان العرب (خ ط ط ) , وإلخسف وإلخسف : الإذلال وتحميل الإنسان ما يكره , قال الأعشى :
إذ سامه خطتى خسف فقال له اعرض على كذا أسمعهما , حار ثم يقال له : فهبك ذلك كذلك , أتقولون بهذا أنتم , فتمنعون من المشى بين القبور بنعلين فيهما قذارة ؟ فمن قولهم : لا فيقال لهم: فأى راحة لكم فى دعوى كاذبة ؟! ثم لو صحت لم تقولوا بها, و لبقيتم مخالفين للخبر بكل حال ؟!
ويقال له أيضا : و لعل البناء فى الرعاف إنما هو فى الدم الأسود ؛ لشبهه بدم الحيض , و لعل فساد صلاة الرجل إلى جنب المرأة إنما هوإذا كانت شابة خوف الفتنة , و مثل هذا كثير ا هـ
وقال ابن القيم تهذيب السنن 9/41 بعد أن ذكر كلام الطحاوى : وهذا ليس بشىء , ولا ذكر فى الحديث شىء من ذلك ا هـ
جـ القول الثالث : الكراهة وهذا هو مذهب أهل الظاهر , وبه قال يزيد بن زريع وأحمد بن حنبل , ومن المعاصرين الشيخ ابن عثيمين ,فقد قال فضيلته فى مجموع الفتاوى 17/200 : والقول بأن المشى بالنعال بين القبور للكراهة هو قول جمهور العلماء , وهو عندى أظهر من القول بالتحريم ؛ لأن النهى عن ذلك من باب إكرام قبور المسلمين وإحترامها , والقول بأن ذلك إهانة لها فنهى عنه , غير ظاهر ,وهذا هو الذى صرف النهى إلى الكراهة
وإذا تأملت هذه الأقوال الثلاثة وجدت أن القول بالجواز قول ضعيف ؛ لما سبق من ضعف الاستدلال بقول النبى (ص): (( إن العبد إذا وضع فى قبره , وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم )) يعنى بذلك : ما ورد فى حديث بشير ابن الخصاصية المتقدم ذكره من النهى عن المشى بين القبور بالنعال
وإنما قال الشيخ هنا بالكراهة دون التحريم ؛ لأنه يرى أن ما يتعلق بالآداب و مكارم الأخلاق فالأمر فيه للاستحباب , وإلنهى فيه للكراهة , و ما كان يتعلق بالعبادات فالأمر فيه للوجوب , وإلنهى للتحريم ؛ لأن الأول يتعلق بالمروءة , وإلثانى بالشريعة
وضعف التأويل الذى أولوا به حديث بشير ابن الخصاصية
و حينئذ يبقى الأمر دائرا بين الكراهة وإلتحريم , وإذا كان الأمر هكذا فلا شك أن الأولى وإلأحوط هو خلع النعال ؛ لأنك إذا خلعت نعليك عند المشى بين القبور لم ينكر عليك أحد , وإذا لم تخلعهما أنكر عليك الذى يذهب إلى التحريم
كما أننا نقول : إن القول بالكراهة دون التحريم إنما هو مقبول على قول من يرى أن ما كان من باب الآداب ومكارم الأخلاق يكون النهى فيه للكراهة
وأما على القول بأن الأصل فى النهي هو التحريم – وهو قول جمهور الأصوليين – فلا محيص عن القول بالتحريم ؛ لورود النهى الصريح عن لبس النعال بين القبور , كما فى حديث بشير ابن الخصاصية "
مما سبق يتبين تناقض الروايات تناقضا تاما لا يمكن جبره إلا باستبعاد واحد منهما ومن ثم فمحاولات التوفيق بينهم غير مجدية وديدن الفقهاء هو الاعتماد على الروايات وليس على القرآن وهو ما يتسبب دوما فى الخلافات بينما القرآن واضح ظاهر وهو أنه خلع النعلين يكون فى مكان واحد هو الوادى المقدس طور وهو الوادى الذى به الكعبة كما قال تعالى تعالى لموسى(ص):
" اخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى"
ومن ثم المشى بالنعال فى أى مكان مباح عدا وادى الكعبة ثم طرح أبو أنس السؤال التالى :
" ثانيا : هل يختص النهى عن المشى بين القبور بالنعال السبتية دون غيرها ؟
اختلف أهل العلم رحمهم الله في ذلك على قولين :
القول الأول : أن النهى خاص بالنعال السبتية دون غيرها وبه قال ابن حزم , واستدل على ذلك بما يلى :أن النبى (ص)إنما دعا صاحب سبتيتين بنص كلامه , ثم أمره بخلع نعليه
و ما رواه البخارى (1374,1338) , ومسلم 4/2201,2200 (2870) , عن أنس قال : قال رسول الله (ص): ( إن العبد إذا وضيع فى قبره , وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم ) قال ابن حزم فى المحلى 5/137 : فهذا إخبار منه عليه السلام بما يكون بعده , وإن الناس من المسلمين سيلبسون النعال فى مدافن الموتى إلى يوم القيامة , على عموم إنذاره عليه السلام بذلك
قال فى المحلى 5/136 : ولا يحل لأحد أن يمشى بين القبور بنعلين سبتيتين , وهما اللتان لا شعر فيهما ,فإن كان فيهما شعر جاز ذلك , فإن كانت إحداهما بشعر , والأخرى بلا شعر جاز المشى فيهما ا هـ
و لم ينه عنه , وإلأخبار لا تنسخ أصلا , فصح إباحة لباس النعال فى المقابر , ووجب استثناء السبتية منها ؛ لنصه عليه السلام عليها ويجاب عن هذا الاستدلال منه بما سبق أن أجبنا به على هذا الحديث عند الكلام على أدلة القائلين بجواز المشى بين القبور بالنعال
و ممن ذهب كذلك إلى كون النهى خاصا بالنعال السبتتية : القاضى أبويعلى
قال ابن القيم فى تهذيب السنن 9/42 : و قال القاضى أبويعلى : ذلك مختص بالنعال السبتية لا يتعداها إلى غيرها قال : لأن الحكم تعبدى غير معلل , فلا يتعدى مورد النص اهـ
والقول الثانى فى هذه المسألة : أنه لا فرق بين النعال السبتية و غيرها من النعال التى عليها شعر ؛ إذ الكل فى مثابة واحدة فى المشى فيها بين القبور , و منافاتها لاحترامها وقد قال ابن حجر معلقا على ما ذهب إليه ابن حزم من كون النهى خاصا بالنعال السبتية , قال فى الفتح 3/206 : وإغرب ابن حزم فقال : يحرم المشى بين القبور بالنعال السبتية دون غيرها , وهو جمود شديد ا هـ
و قال الشوكانى فى نيل الأوطار 4/107 : و لا يختص عدم الجواز بكون النعلين سبتيتين ؛ لعدم الفارق بينها و بين غيرها , و قال ابن حزم : يجوز وطء القبور بالنعال التى ليست سبتية ؛ لحديث : ((إن الميت يسمع خفق نعالهم )) و خص المنع بالسبتية , و جعل هذا جمعا بين الحديثين , وهو وهم ؛ لأن سماع الميت لخفق النعال لا يستلزم أن يكون المشى على قبر أو بين القبور فلا معارضة ا هـ
وهذا هو القول الراجح بلا شك , و كون الرجل كان يلبس نعلين سبتيتين هذا وصف طردى، لا مناسبة فيه للحكم
و مثال ذلك : لو جاء فى بعض الأحاديث أن رجلا كثير الشعر , ضخم البدن , مفتول العضلات, جاء إلى النبى (ص), وهو يقول :يا رسول الله , إنى جامعت امرأتى فى نهار رمضان , فماذا على ؟فهذه الأوصاف كلها أوصاف طردية , و على هذا فلو إستفتانا رجل نحيف أصلع ضعيف العضلات فإنه يكون حكمه كحكم الأول تماما , مع أن الأول كان كثير الشعر , مفتول العضلات , كبير الجسم , وهذا الثانى نحيف أصلع ضعيف العضلات , و مع ذلك كله نقول : إن حكمه كحكمه ؛ لأن الأوصاف المذكورة أوصاف طردية لا مناسبة لها
* ثالثا : فإن كان للماشى عذر يمنعه من خلع نعليه ؛ مثل الشوك يخافه على قدميه , أو نجاسة تمسهما، أو شدة حرارة الأرض , أو نحو ذلك , لم يكره المشى فى النعلين
قال أحمد فى الرجل يدخل المقابر , و فيها شوك , يخلع نعليه : هذا يضيق على الناس حتى يمشى الرجل فى الشوك , وإن فعله فحسن , هوإحوط , وإن لم يفعله رجل يعنى لا بأس
* رابعا : فإذا مشى الإنسان فى نعليه بين القبور لغير حاجة أنكر عليه , كما أنكر النبى (ص)على صاحب السبتيتين , وعلم الحكم الشرعى
* خامسا : فإذا لم يمر بين القبور فإنه لا يخلع نعليه ؛ مثل أن يقف عند أول المقبرة , ويسلم
* سادسا : ولا يدخل فى المنع من لبس النعال بين القبور الخفاف؛ لأن نزعها يشق , وقد روى عن أحمد أنه كان إذا أراد أن يخرج الى الجنازة لبس خفيه , مع أمره بخلع النعال "
نفس الكلام وهو نفس الخلاف ونفس الاستدلال ومن ثم يجوز المشى بين القبور بالنعال لأن النهى الوحيد كما قلت فى القرآن عن المشى بالنعال هو النهى عن المشى فى الوادى المقدس الذى به الكعبة بالنعال
الكتاب تأليف أبو أنس أشرف بن يوسف بن حسن وقد قال فى مقدمته أن كل المشى بين القبور حرام وهو قوله:
"اعلم – رحمك الله – أنه لا يحل لأحد أن يمشي بين القبور بالنعال , أيا كان نوع هذه النعال , فلا يختص الحكم بالنعال السبتية دون غيرها , إلا إذا كان للماشي عذر يمنعه من خلع نعليه فلا يخلعهما حينئذ , فإذا مشي في نعليه بين القبور أنكر عليه , و علم الحكم الشرعي , وإذا لم يمر بين القبور لا يخلع نعليه , مثل أن يقف عند أول المقبرة , ويسلم , و لا يدخل في المنع من لبس النعال بين القبور الخفاف "
ثم فصل الرجل ما أجمله فى مقدمته فقال:
"الكلام في هذه المسألة يتناول الأمور التالية :
أولا : حكم المشي بين القبور بالنعال :
اختلف أهل العلم رحمهم الله في حكم المشي بين القبور بالنعال على ثلاثة أقوال :
أ – القول الأول : التحريم وهو قول ابن حزم , كما في المحلى 5/136 , و لكنه خص التحريم بالنعال السبتية دون غيرها , كما سيأتي إن شاء الله في المسألة التالية , وإلشوكاني في نيل الأوطار 4/107، وإختار هذا القول من المعاصرين سماحة الشيخ ابن باز, كما في مجموع فتاويه 13/355 , و فضيلة الشيخ الألباني, كما في أحكام الجنائز صـ252 وانظر : التمهيد لابن عبدالبر 21/79 وإستدل أصحاب هذا القول بالدليل الأثري وإلدليل النظري :
أولا : الدليل الأثري :
وهو مارواه أحمد في مسنده 5/224,84,83 (21953,20788,20787,20784) , وإبو داود (3230) , وإبن ماجه (1568) , وإلنسائي (4/96) (2048) , عن بشير رسول الله (ص)قال: كنت أماشي رسول الله (ص)آخذا بيده , فقال لي : " يا ابن الخصاصية , ما أصبحت تنقم على الله ؟! أصبحت تماشي رسوله " – قال : أحسبه قال : آخذا بيده – قال : قلت : ما أصبحت أنقم على الله شيئا , قد أعطاني الله كل خير قال : فأتينا على قبور المشركين , فقال " لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا " ثلاث مرات , ثم أتينا على قبور المسلمين فقال : " لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيرا " ثلاث مرات يقولها , قال : فبصر برجل يمشي بين المقابر في نعليه , فقال : " ويحك يا صاحب السبتيتين , ألق سبتيتيك " مرتين أو ثلاثا , فنظر الرجل , فلما رأى رسول الله (ص)خلع نعليه قوله : " السبتيتين " السبتية – بكسر السين –: نسبة إلى السبت , وهي : جلود البقر المدبوغة بالقرظ , يتخذ منها النعال , سميت بذلك ؛ لأن شعرها قد سبت عنها ؛ أي : حلق وإزيل و قيل : لأنها انسبتت بالدباغ ؛ أى : لانت وإريد بهما النعلان المتخذان من السبت وإما حكم هذا الحديث فقد قال ابن القيم فى تهذيب السنن 9/40 : و قد اختلف الناس فى هذين الحديثين , فضعفت طائفة حديث بشير قال البيهقى : رواه جماعه عن الأسود بن شيبان , ولا يعرف إلا بهذا الإسناد , وقد ثبت عن أنس , عن النبى (ص), فذكر هذا الحديث وقال أحمد بن حنبل : حديث بشير إسناده جيد , أذهب إليه إلا من علة وأما تضعيف حديث بشير فمما لم نعلم أحدا طعن فيه ، بل قد قال الإمام أحمد : إسناده جيد و قال عبد الرحمن بن مهدى :كان عبد الله بن عثمان يقول فيه : حديث جيد ، و رجل ثقة كلام ابن القيم وقال الحاكم فى المستدرك 1/373 : صحيح الإسناد و وافقه الذهبى ، وإقره الحافظ فى الفتح 3/160 كذا فى المطبوع ، ولعلها : فصححت فإن السياق يقتضى ذلك
السنن الكبرى 4/80 انظر : المغنى 3/514، وموسوعة فقه الإمام أحمد 6/236 وإحتج بهذا الحديث ابن حزم فى المحلى 5/137 على تحريم المشى بالنعال بين القبور ، و فى مكان آخر من نفس الكتاب 5/142 ، 143على أنه لا يدفن مسلم مع مشرك و قال النووى فى المجموع 5/280 : رواه أبو داود وإلنسائى بإسناد حسن وإلحديث حسنه أيضا الشيخ الألبانى , كما فى تعليقه على سنن أبى داود و سنن ابن ماجه و قد ثبت عن الإمام أحمد أنه كان يعمل بهذا الحديث , فقال أبو داود فى مسائله ص 158 : رأيت أحمد إذا تبع الجنازة , فقرب من المقابر خلع نعليه وكذا فى (العلل) (3091) طبع بيروت و قال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن المشى بين القبور فى النعلين , فقال : أما أنا فلا أفعله , أخلع نعلى على حديث بشير فما كان أتبعه للسنة "
مما سبق يتضح أن الروايات كلها متناقضة وأنها معلولة الأسانيد والحديث الرئيسى فيها قولة تزكية للنفس هى " أصبحت تماشى رسول الله" وهو قوله فخر ومدح للناس تتعارض مع قوله تعالى " فلا تزكوا أنفسكم"
ومن المعروف أن مدافن المسلمين فى المدينة لم تكن بجوار مدافن الكفار لأن المسجد عندما أقيم وفقا للروايات أزيلت منه قبور المشركين وكان المسلمون حسب الروايات يدفنون فى البقيع
ثم قال أبوإنس:
"ثانيا : الدليل النظرى :
قال ابن القيم فى تهذيب السنن 9/41 : و من تدبر نهى النبى (ص)عن الجلوس على القبر , وإلاتكاء عليه , وإلوطء عليه علم أن النهى إنما كان احتراما لسكانها أن يوطأوا بالنعال فوق رؤوسهم , ولهذا ينهى عن التغوط بين القبور , وإخبر النبى (ص)أن الجلوس على الجمر حتى تحرق الثياب خير من الجلوس على القبر , و معلوم أن هذا أخف من المشى بين القبور بالنعال و بالجملة فاحترام الميت فى قبره بمنزلة احترامه فى داره التى كان يسكنها فى الدنيا ؛فإن القبر قد صار داره وقد تقدم قوله (ص)
و من تأمل كتاب القبور لابن أبى الدنيا رأى فيه آثارا كثيرة فى ذلك , فكيف يستبعد أن يكون من محاسن الشريعة إكرام هذه المنازل عن وطئها بالنعال وإحترامها ؟ ! بل هذا من تمام محاسنها , و شاهده ما ذكرناه من وطئها , وإلجلوس عليها , وإلاتكاء عليها ا هـ و زاد ابن قدامة فى المغنى 3/515 : ولأن خلع النعلين أقرب إلى الخشوع وزى أهل لتواضع اهـ
ب – القول الثانى : الجواز و به قال جمهور العلماء , وهو قول الحسن , وإبن سيرين , وإلنخعى , وإبى حنيفة , و مالك , وإلشافعى , و جماهير الفقهاء من التابعين و من بعدهم
قال جرير بن حازم : رأيت الحسن وإبن سيرين يمشيان بين القبور فى نعالهما وإحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخارى (1374,1338) , ومسلم 4/2201,2200 (2870) , عن أنس قال : قال رسول الله (ص): ( إن العبد إذا وضع فى قبره , وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم ) و وجه الاستدلال بهذا الحديث : أن هذا إخبار من النبى (ص)بما يكون بعده , وإن الناس من المسلمين سيلبسون النعال فى مدافن الموتى إلى يوم القيامة , على عموم إنذاره عليه السلام بذلك , و لم ينه عنه (ص), فلو كان مكروها لبين ذلك , وإلأخبار لا تنسخ أصلا , فصح إباحة لباس النعال فى المقابر
و قد أجيب عن هذا الاستدلال بجوابين , هما :
1- أن هذا إخبار من النبى (ص)بالواقع , وهو سماع الميت قرع نعال الحى , وهذا لا يدل على الإذن فى قرع القبور وإلمشى بينها بالنعال ؛ إذ الإخبار عن وقوع الشىء لايدل على جوازه , ولا تحريمه , ولا حكمه
قال ابن قدامة فى المغنى 3/515 : وإخبار النبى (ص)بأن الميت يسمع قرع نعالهم لاينفى الكراهة ؛ فإنه يدل على وقوع هذا منهم , ولا نزاع فى وقوعه وفعلهم إياه مع كراهته ا هـ
وقال ابن حجر فى الفتح 3/206 : وإستدل به على جواز المشى بين القبور بالنعال , و لا دلالة فيه قال ابن الجوزى : ليس فى الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر , و ذلك لايقتضى إباحة , ولا تحريما
2- أن هناك احتمالا أن يكون المراد من الحديث سماعه إياها بعد أن يجاوز المقبرة , وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال
قال الشوكاني في نيل الأوطار 4/107 : سماع الميت لخفق النعال لا يستلزم أن يكون المشي على قبر , أو بين القبور اهـ
ثم أجاب القائلون بجواز المشى بين القبور بالنعال على حديث بشير ابن الخصاصية بعدة أجوبة , نذكر منها :
1- قال الخطابى فى معالم السنن 1/276 : وخبر أنس يدل على جواز لبس النعل لزائر القبور , وللماشى بحضرتها , وبين ظهرانيها
فأما خبر السبتيتين فيشبه أن يكون إنما كره ذلك ؛ لما فيهما من الخيلاء , وذلك أن نعال السبت من لباس أهل الترفه والتنعم , قال الشاعر يمدح رجلا :* يحذى نعال السبت ليس بتوأم *
يعنى : قوله (ص): "إن العبد إذا وضع فى قبره , وتولى عنه أصحابه الحديث
* رقاق النعال طيب حجزاتهم يحيون يوم السباسب *
يقول : هم أعفاء الفروج , لايحلون أزرهم لريبة , والسباسب عيد كان لهم فى الجاهلية , فأحب (ص)أن يكون دخوله المقابر على زى التواضع ولباس أهل الخشوع ا هـ
وقد تعقب كلام الخطابى بأن ابن عمر كان يلبس النعال السبتية , ويقول: إن النبى (ص)كان يلبسها , وهو حديث صحيح قاله الحافظ فى الفتح 3/206 وقال ابن عبد البر فى التمهيد 21 /78 : ولا أعلم خلافا فى جواز لباس النعال السبتية فى غير المقابر , وحسبك أن ابن عمر يروى عن رسول الله (ص)أنه كان يلبسها , وفيه الأسوة الحسنة (ص) أ هـ
2- قال الطحاوى فى شرح معانى الآثار 1/510 بعد أن ذكر حديث بشير ابن الخصاصية , قال :فذهب قوم إلى هذا الحديث , فكرهوا المشى بالنعال بين القبور , وخالفهم فى ذلك آخرون فقالوا: قد يجوز أن يكون النبى (ص)أمر ذلك الرجل بخلع النعلين , لا لأنه كره المشى بالنعال بين القبور , لكن لمعنى آخر من قذر رآه فيهما يقذر القبور , وقد رأينا رسول الله (ص)صلى وعليه نعلاه , ثم أمر بخلعهما , فخلعهما وهو يصلى , فلم يكن على كراهة الصلاة فى النعلين , و لكنه للقذر الذى كان فيهما , وقد روى عن رسول الله (ص)ما يدل على إباحة المشى بين القبور بالنعال
حدثنا نصر بن مرزوق , قال :ثنا آدم بن أبى إياس , قال :ثنا حماد بن سلمة , قال : ثنا محمد بن عمرو , عن أبى سلمة , عن أبى هريرة قال : قال رسول الله (ص) فذكر حديثا طويلا فى المؤمن إذا دفن فى قبره : ((وإلذى نفسى بيده إنه ليسمع خفق نعالكم حين تولوا عنه مدبرين ))
حدثنا على بن معبد , قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء , قال : أنا محمد بن عمرو , فذكر بإسناده مثله حدثنا فهد , قال : ثنا أحمد بن حميد , قال : ثنا وكيع , عن سفيان , عن السدى , عن أبيه , عن أبى هريرة رفعه، مثله فهذا يعارض الحديث الأول إذا كان معناه على ما حمله عليه أهل المقالة الأولى , و لكنا لا نحمله على المعارضة , و نجعل الحديثين صحيحين , فنجعل النهى الذى كان فى حديث بشير للنجاسة التى كانت فى النعلين ؛ لئلا ينجس القبور , كما قد نهى أن يتغوط عليها أويبال , و حديث أبى هريرة يدل على إباحة المشى بالنعال التى لا قذر فيها بين القبور , فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معانى الآثار , وقد جاءت الآثار متواترة عن رسول الله (ص)بما قد ذكرنا عنه من صلاته فى نعليه , ومن خلعه إياهما فى وقت ما خلعهما للنجاسة التى كانت فيهما , ومن إباحة الناس الصلاة فى النعال ا هـ
وقد أجاب عن ذلك ابن حزم , وإبن القيم:قال ابن حزم فى المحلى 5/137 ,138 : و قال بعض من لا يبالى بما أطلق به لسانه , فقال : لعل تينك النعلين كان فيهما قذر
فمن قطع بهذا فقد كذب على رسول الله (ص)؛ إذ قوله ما لم يقل , ومن لم يقطع بذلك فقد حكم بالظن , و قفا ما لا علم له به , و كلاهما خطتا خسف , نعوذ بالله منهما
ثم يقال له : فهبك ذلك كذلك , أتقولون بهذا أنتم , فتمنعون من المشى بين القبور بنعلين فيهما قذارة ؟ فمن قولهم : لا
الخطة - بالضم -: شبه القصة وإلأمر يقال: سمته خطة خسف و خطة سوء لسان العرب (خ ط ط ) , وإلخسف وإلخسف : الإذلال وتحميل الإنسان ما يكره , قال الأعشى :
إذ سامه خطتى خسف فقال له اعرض على كذا أسمعهما , حار ثم يقال له : فهبك ذلك كذلك , أتقولون بهذا أنتم , فتمنعون من المشى بين القبور بنعلين فيهما قذارة ؟ فمن قولهم : لا فيقال لهم: فأى راحة لكم فى دعوى كاذبة ؟! ثم لو صحت لم تقولوا بها, و لبقيتم مخالفين للخبر بكل حال ؟!
ويقال له أيضا : و لعل البناء فى الرعاف إنما هو فى الدم الأسود ؛ لشبهه بدم الحيض , و لعل فساد صلاة الرجل إلى جنب المرأة إنما هوإذا كانت شابة خوف الفتنة , و مثل هذا كثير ا هـ
وقال ابن القيم تهذيب السنن 9/41 بعد أن ذكر كلام الطحاوى : وهذا ليس بشىء , ولا ذكر فى الحديث شىء من ذلك ا هـ
جـ القول الثالث : الكراهة وهذا هو مذهب أهل الظاهر , وبه قال يزيد بن زريع وأحمد بن حنبل , ومن المعاصرين الشيخ ابن عثيمين ,فقد قال فضيلته فى مجموع الفتاوى 17/200 : والقول بأن المشى بالنعال بين القبور للكراهة هو قول جمهور العلماء , وهو عندى أظهر من القول بالتحريم ؛ لأن النهى عن ذلك من باب إكرام قبور المسلمين وإحترامها , والقول بأن ذلك إهانة لها فنهى عنه , غير ظاهر ,وهذا هو الذى صرف النهى إلى الكراهة
وإذا تأملت هذه الأقوال الثلاثة وجدت أن القول بالجواز قول ضعيف ؛ لما سبق من ضعف الاستدلال بقول النبى (ص): (( إن العبد إذا وضع فى قبره , وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم )) يعنى بذلك : ما ورد فى حديث بشير ابن الخصاصية المتقدم ذكره من النهى عن المشى بين القبور بالنعال
وإنما قال الشيخ هنا بالكراهة دون التحريم ؛ لأنه يرى أن ما يتعلق بالآداب و مكارم الأخلاق فالأمر فيه للاستحباب , وإلنهى فيه للكراهة , و ما كان يتعلق بالعبادات فالأمر فيه للوجوب , وإلنهى للتحريم ؛ لأن الأول يتعلق بالمروءة , وإلثانى بالشريعة
وضعف التأويل الذى أولوا به حديث بشير ابن الخصاصية
و حينئذ يبقى الأمر دائرا بين الكراهة وإلتحريم , وإذا كان الأمر هكذا فلا شك أن الأولى وإلأحوط هو خلع النعال ؛ لأنك إذا خلعت نعليك عند المشى بين القبور لم ينكر عليك أحد , وإذا لم تخلعهما أنكر عليك الذى يذهب إلى التحريم
كما أننا نقول : إن القول بالكراهة دون التحريم إنما هو مقبول على قول من يرى أن ما كان من باب الآداب ومكارم الأخلاق يكون النهى فيه للكراهة
وأما على القول بأن الأصل فى النهي هو التحريم – وهو قول جمهور الأصوليين – فلا محيص عن القول بالتحريم ؛ لورود النهى الصريح عن لبس النعال بين القبور , كما فى حديث بشير ابن الخصاصية "
مما سبق يتبين تناقض الروايات تناقضا تاما لا يمكن جبره إلا باستبعاد واحد منهما ومن ثم فمحاولات التوفيق بينهم غير مجدية وديدن الفقهاء هو الاعتماد على الروايات وليس على القرآن وهو ما يتسبب دوما فى الخلافات بينما القرآن واضح ظاهر وهو أنه خلع النعلين يكون فى مكان واحد هو الوادى المقدس طور وهو الوادى الذى به الكعبة كما قال تعالى تعالى لموسى(ص):
" اخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى"
ومن ثم المشى بالنعال فى أى مكان مباح عدا وادى الكعبة ثم طرح أبو أنس السؤال التالى :
" ثانيا : هل يختص النهى عن المشى بين القبور بالنعال السبتية دون غيرها ؟
اختلف أهل العلم رحمهم الله في ذلك على قولين :
القول الأول : أن النهى خاص بالنعال السبتية دون غيرها وبه قال ابن حزم , واستدل على ذلك بما يلى :أن النبى (ص)إنما دعا صاحب سبتيتين بنص كلامه , ثم أمره بخلع نعليه
و ما رواه البخارى (1374,1338) , ومسلم 4/2201,2200 (2870) , عن أنس قال : قال رسول الله (ص): ( إن العبد إذا وضيع فى قبره , وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم ) قال ابن حزم فى المحلى 5/137 : فهذا إخبار منه عليه السلام بما يكون بعده , وإن الناس من المسلمين سيلبسون النعال فى مدافن الموتى إلى يوم القيامة , على عموم إنذاره عليه السلام بذلك
قال فى المحلى 5/136 : ولا يحل لأحد أن يمشى بين القبور بنعلين سبتيتين , وهما اللتان لا شعر فيهما ,فإن كان فيهما شعر جاز ذلك , فإن كانت إحداهما بشعر , والأخرى بلا شعر جاز المشى فيهما ا هـ
و لم ينه عنه , وإلأخبار لا تنسخ أصلا , فصح إباحة لباس النعال فى المقابر , ووجب استثناء السبتية منها ؛ لنصه عليه السلام عليها ويجاب عن هذا الاستدلال منه بما سبق أن أجبنا به على هذا الحديث عند الكلام على أدلة القائلين بجواز المشى بين القبور بالنعال
و ممن ذهب كذلك إلى كون النهى خاصا بالنعال السبتتية : القاضى أبويعلى
قال ابن القيم فى تهذيب السنن 9/42 : و قال القاضى أبويعلى : ذلك مختص بالنعال السبتية لا يتعداها إلى غيرها قال : لأن الحكم تعبدى غير معلل , فلا يتعدى مورد النص اهـ
والقول الثانى فى هذه المسألة : أنه لا فرق بين النعال السبتية و غيرها من النعال التى عليها شعر ؛ إذ الكل فى مثابة واحدة فى المشى فيها بين القبور , و منافاتها لاحترامها وقد قال ابن حجر معلقا على ما ذهب إليه ابن حزم من كون النهى خاصا بالنعال السبتية , قال فى الفتح 3/206 : وإغرب ابن حزم فقال : يحرم المشى بين القبور بالنعال السبتية دون غيرها , وهو جمود شديد ا هـ
و قال الشوكانى فى نيل الأوطار 4/107 : و لا يختص عدم الجواز بكون النعلين سبتيتين ؛ لعدم الفارق بينها و بين غيرها , و قال ابن حزم : يجوز وطء القبور بالنعال التى ليست سبتية ؛ لحديث : ((إن الميت يسمع خفق نعالهم )) و خص المنع بالسبتية , و جعل هذا جمعا بين الحديثين , وهو وهم ؛ لأن سماع الميت لخفق النعال لا يستلزم أن يكون المشى على قبر أو بين القبور فلا معارضة ا هـ
وهذا هو القول الراجح بلا شك , و كون الرجل كان يلبس نعلين سبتيتين هذا وصف طردى، لا مناسبة فيه للحكم
و مثال ذلك : لو جاء فى بعض الأحاديث أن رجلا كثير الشعر , ضخم البدن , مفتول العضلات, جاء إلى النبى (ص), وهو يقول :يا رسول الله , إنى جامعت امرأتى فى نهار رمضان , فماذا على ؟فهذه الأوصاف كلها أوصاف طردية , و على هذا فلو إستفتانا رجل نحيف أصلع ضعيف العضلات فإنه يكون حكمه كحكم الأول تماما , مع أن الأول كان كثير الشعر , مفتول العضلات , كبير الجسم , وهذا الثانى نحيف أصلع ضعيف العضلات , و مع ذلك كله نقول : إن حكمه كحكمه ؛ لأن الأوصاف المذكورة أوصاف طردية لا مناسبة لها
* ثالثا : فإن كان للماشى عذر يمنعه من خلع نعليه ؛ مثل الشوك يخافه على قدميه , أو نجاسة تمسهما، أو شدة حرارة الأرض , أو نحو ذلك , لم يكره المشى فى النعلين
قال أحمد فى الرجل يدخل المقابر , و فيها شوك , يخلع نعليه : هذا يضيق على الناس حتى يمشى الرجل فى الشوك , وإن فعله فحسن , هوإحوط , وإن لم يفعله رجل يعنى لا بأس
* رابعا : فإذا مشى الإنسان فى نعليه بين القبور لغير حاجة أنكر عليه , كما أنكر النبى (ص)على صاحب السبتيتين , وعلم الحكم الشرعى
* خامسا : فإذا لم يمر بين القبور فإنه لا يخلع نعليه ؛ مثل أن يقف عند أول المقبرة , ويسلم
* سادسا : ولا يدخل فى المنع من لبس النعال بين القبور الخفاف؛ لأن نزعها يشق , وقد روى عن أحمد أنه كان إذا أراد أن يخرج الى الجنازة لبس خفيه , مع أمره بخلع النعال "
نفس الكلام وهو نفس الخلاف ونفس الاستدلال ومن ثم يجوز المشى بين القبور بالنعال لأن النهى الوحيد كما قلت فى القرآن عن المشى بالنعال هو النهى عن المشى فى الوادى المقدس الذى به الكعبة بالنعال