- المشاركات
- 82,633
- الإقامة
- قطر-الأردن
مستقبل الدولار الأمريكي
د. مقبل صالح أحمد الذكير
اهتزت في السنوات الأخيرة مكانة الدولار الأمريكي كعملة احتياط دولية بسبب عدم استقرار سعر صرفه، فزادت المطالبات بالتخلي عنه والبحث عن عملة احتياط دولية جديدة. والحقيقة أن هذه المطالبات لم تأت من فراغ، فقد تغير الوضع النسبي لقوة الاقتصاد الأمريكي على الرغم من احتفاظه بموقعه كأكبر اقتصاد في العالم. وبسبب هذا التراجع، كان لا بد من أن تتأثر مكانة الدولار من حيث قدرته على القيام بالوظائف المطلوبة منه دوليا كعملة احتياط، وكوسيط في تبادل السلع وتسعيرها، وكذلك كأداة استثمار وتخزين للقيمة. والمعروف أن الناس والمؤسسات والمصارف والحكومات لا تطلب العملة لذاتها، وإنما لقدرتها على تلبية حاجاتهم وأغراضهم المختلفة.
ومن حيث المبدأ، ليس هناك ما يمنع تراجع مكانة عملة دولية وحلول عملة أو عملات أخرى مكانها، لكن هذا لا يحدث بين ليلة وضحاها وإنما يأخذ وقتا يختلف من عصر إلى آخر. فقد ساد الذهب قرونا طويلة ثم باد مع نمو حجم التجارة وزيادة المخترعات وأنواع السلع والخدمات، فأصبح المتاح من الذهب لا يوفر سيولة كافية لإتمام الصفقات والمعاملات التجارية الدولية. ومع بداية القرن العشرين أخذ العالم يتقبل فكرة النقد الورقي، فحل الجنيه الاسترليني بديلا عن الذهب كعملة تبادل واحتياط دولي نظرا لقوة وهيمنة الاقتصاد البريطاني حينها. لكن مع انتهاء الحرب العالمية الثانية توارى الاسترليني أمام صعود نجم الدولار وإرهاصات بداية عصر السيادة الأمريكية.
ومع أن الدولار ما زال يحتفظ نسبيا بمكانته الدولية، إلا أن الانهيارات التي سببتها أزمة المال العالمية حركت المخاوف بشأن مستقبل الدولار الأمريكي. والواقع أن ما يشغل كثيرا من المتابعين وأصحاب المصلحة اليوم هو: هل سيبقى الدولار يتبوأ هذه المكانة الدولية؟ أم أن نجمه بدأ يأفل؟ ليس من السهولة تخمين المستقبل، لكن من المؤكد أن مكانة أي عملة مرتبطة بقوة الاقتصاد. فكيف يبدو مستقبل الاقتصاد الأمريكي؟ يمكن أن نتصور المستقبل القريب بناء على معطيات الحاضر. والحاضر لا يعكس صورة مشرقة للاقتصاد الأمريكي. فالعجز في الميزان التجاري وفي الموازنة الحكومية يتفاقم سنة بعد أخرى. ومن غير المرجح أن يكون أداء الاقتصاد الأمريكي في الأعوام المقبلة جيداً بالقدر نفسه الذي كان عليه في العقود الأخيرة. إذ يرى بعض الاقتصاديين، مثل مارتن فيلديشتاين من جامعة هارفارد، أن تباطؤ النمو السكاني والانحدار الناتج عن التغيرات الديموغرافية في معدلات مشاركة قوة العمل من العوامل التي ستؤدي إلى انخفاض نمو العمالة. ومع افتراض نمو أبطأ في قوة العمل مقارنة بالعقد الماضي، وعدم ارتفاع الإنتاجية بفعل تراكم رأس المال، والانحدار في نمو الإنتاجية المتعددة العوامل إلى متوسط ما قبل عام 2000، فإن كل هذا يعني ضمناً أن النمو المحتمل في الناتج المحلي الإجمالي لن يتجاوز 1.4 في المائة. وإذا ما انخفضت القيمة الحقيقية للدولار قياساً إلى وزنه التجاري بمقدار 25 في المائة على مدى العقد المقبل، وانعكس التأثير الكامل لهذا الانخفاض في قيمة الدولار في أسعار الواردات، فإن الزيادة في تكلفة الواردات من شأنها أن تحد من نمو الدخل الأمريكي الحقيقي بنسبة 0.4 في المائة سنوياً تقريباً. ويضيف فيلديشتاين أن هذين التأثيرين الدوليين من شأنهما أن يخلفا نمواً سنوياً في السلع والخدمات الحقيقية المتاحة للاستهلاك والاستثمار في الولايات المتحدة ـ سواء المنتجة محليا أو المستوردة ـ بنسبة لا تزيد على 1.9 في المائة، الأمر الذي يعني ضمناً عدم حدوث أي تغيير مقارنة بالعقد الماضي. وهناك بطبيعة الحال جوانب سلبية خطيرة لهذه التوقعات، خصوصاً إذا ظل العجز المالي مرتفعاً، أو إذا ما تسببت السياسات الضريبية المعاكسة في إحباط الزيادة في الإنتاجية. ويتعين على الحكومة أن تنظر إلى التوقعات الضعيفة للأعوام العشرة المقبلة باعتبارها إنذاراً وسبباً لتكريس السياسات القادرة على خفض العجز المالي وتعزيز حوافز النمو.
فيما يرى بول كروجمان أن حالة النزعة التجارية الحمائية الصينية قد تسفر في العامين المقبلين عن تراجع التوظيف وحجم العمالة في الولايات المتحدة لتخسر ما يقارب 1.4 مليون وظيفة. ويضيف قائلا: صحيح أن العالم يعاني الآن فيضان الأموال الرخيصة، لكن إذا قررت الصين الشروع في بيع الدولارات، فلن يكون هناك ارتفاع كبير في أسعار الفائدة الأمريكية. وقد تؤدي خطوة من هذا النوع إلى إضعاف الدولار مقابل العملات الأخرى، على الرغم من أن هذه النتيجة قد تعود بالنفع وليس بالضرر على القدرة التنافسية وعلى العمالة في الولايات المتحدة.
في تصوري، أن الاقتصاد الأمريكي سيفقد تدريجيا قوته العظمي، وستتراجع الولايات المتحدة لتصبح واحدة من الدول الكبرى وليس القوى العظمى. وسيبقى الدولار متذبذبا لبعض الوقت لكنه سيواصل فقدان مكانته الدولية تدريجيا طالما استمر تراجع الاقتصاد الأمريكي. واعتمادا على برامج الإصلاح وسلامة السياسات التي ستلتزم بها إدارة الرئيس أوباما سيتحدد مصير الدولار. لكن بعض العملات ستكسب قوة إضافية، بيد أنه سيصعب على أيها احتلال مكانة الدولار في المدى القريب. لقد غدت صورة العلاقات الدولية شديدة التعقيد بحيث يصعب تصور سيناريوهات بسيطة مشابهة لما حدث في النظام الدولي في منتصف القرن العشرين، لكننا قد نشهد في نهاية الأمر عالما متعدد الأقطاب. فما موقفنا من هذه الأحداث المتلاحقة؟ أترك الإجابة للأسبوع
*عن " الاقتصادية" السعودية
د. مقبل صالح أحمد الذكير
اهتزت في السنوات الأخيرة مكانة الدولار الأمريكي كعملة احتياط دولية بسبب عدم استقرار سعر صرفه، فزادت المطالبات بالتخلي عنه والبحث عن عملة احتياط دولية جديدة. والحقيقة أن هذه المطالبات لم تأت من فراغ، فقد تغير الوضع النسبي لقوة الاقتصاد الأمريكي على الرغم من احتفاظه بموقعه كأكبر اقتصاد في العالم. وبسبب هذا التراجع، كان لا بد من أن تتأثر مكانة الدولار من حيث قدرته على القيام بالوظائف المطلوبة منه دوليا كعملة احتياط، وكوسيط في تبادل السلع وتسعيرها، وكذلك كأداة استثمار وتخزين للقيمة. والمعروف أن الناس والمؤسسات والمصارف والحكومات لا تطلب العملة لذاتها، وإنما لقدرتها على تلبية حاجاتهم وأغراضهم المختلفة.
ومن حيث المبدأ، ليس هناك ما يمنع تراجع مكانة عملة دولية وحلول عملة أو عملات أخرى مكانها، لكن هذا لا يحدث بين ليلة وضحاها وإنما يأخذ وقتا يختلف من عصر إلى آخر. فقد ساد الذهب قرونا طويلة ثم باد مع نمو حجم التجارة وزيادة المخترعات وأنواع السلع والخدمات، فأصبح المتاح من الذهب لا يوفر سيولة كافية لإتمام الصفقات والمعاملات التجارية الدولية. ومع بداية القرن العشرين أخذ العالم يتقبل فكرة النقد الورقي، فحل الجنيه الاسترليني بديلا عن الذهب كعملة تبادل واحتياط دولي نظرا لقوة وهيمنة الاقتصاد البريطاني حينها. لكن مع انتهاء الحرب العالمية الثانية توارى الاسترليني أمام صعود نجم الدولار وإرهاصات بداية عصر السيادة الأمريكية.
ومع أن الدولار ما زال يحتفظ نسبيا بمكانته الدولية، إلا أن الانهيارات التي سببتها أزمة المال العالمية حركت المخاوف بشأن مستقبل الدولار الأمريكي. والواقع أن ما يشغل كثيرا من المتابعين وأصحاب المصلحة اليوم هو: هل سيبقى الدولار يتبوأ هذه المكانة الدولية؟ أم أن نجمه بدأ يأفل؟ ليس من السهولة تخمين المستقبل، لكن من المؤكد أن مكانة أي عملة مرتبطة بقوة الاقتصاد. فكيف يبدو مستقبل الاقتصاد الأمريكي؟ يمكن أن نتصور المستقبل القريب بناء على معطيات الحاضر. والحاضر لا يعكس صورة مشرقة للاقتصاد الأمريكي. فالعجز في الميزان التجاري وفي الموازنة الحكومية يتفاقم سنة بعد أخرى. ومن غير المرجح أن يكون أداء الاقتصاد الأمريكي في الأعوام المقبلة جيداً بالقدر نفسه الذي كان عليه في العقود الأخيرة. إذ يرى بعض الاقتصاديين، مثل مارتن فيلديشتاين من جامعة هارفارد، أن تباطؤ النمو السكاني والانحدار الناتج عن التغيرات الديموغرافية في معدلات مشاركة قوة العمل من العوامل التي ستؤدي إلى انخفاض نمو العمالة. ومع افتراض نمو أبطأ في قوة العمل مقارنة بالعقد الماضي، وعدم ارتفاع الإنتاجية بفعل تراكم رأس المال، والانحدار في نمو الإنتاجية المتعددة العوامل إلى متوسط ما قبل عام 2000، فإن كل هذا يعني ضمناً أن النمو المحتمل في الناتج المحلي الإجمالي لن يتجاوز 1.4 في المائة. وإذا ما انخفضت القيمة الحقيقية للدولار قياساً إلى وزنه التجاري بمقدار 25 في المائة على مدى العقد المقبل، وانعكس التأثير الكامل لهذا الانخفاض في قيمة الدولار في أسعار الواردات، فإن الزيادة في تكلفة الواردات من شأنها أن تحد من نمو الدخل الأمريكي الحقيقي بنسبة 0.4 في المائة سنوياً تقريباً. ويضيف فيلديشتاين أن هذين التأثيرين الدوليين من شأنهما أن يخلفا نمواً سنوياً في السلع والخدمات الحقيقية المتاحة للاستهلاك والاستثمار في الولايات المتحدة ـ سواء المنتجة محليا أو المستوردة ـ بنسبة لا تزيد على 1.9 في المائة، الأمر الذي يعني ضمناً عدم حدوث أي تغيير مقارنة بالعقد الماضي. وهناك بطبيعة الحال جوانب سلبية خطيرة لهذه التوقعات، خصوصاً إذا ظل العجز المالي مرتفعاً، أو إذا ما تسببت السياسات الضريبية المعاكسة في إحباط الزيادة في الإنتاجية. ويتعين على الحكومة أن تنظر إلى التوقعات الضعيفة للأعوام العشرة المقبلة باعتبارها إنذاراً وسبباً لتكريس السياسات القادرة على خفض العجز المالي وتعزيز حوافز النمو.
فيما يرى بول كروجمان أن حالة النزعة التجارية الحمائية الصينية قد تسفر في العامين المقبلين عن تراجع التوظيف وحجم العمالة في الولايات المتحدة لتخسر ما يقارب 1.4 مليون وظيفة. ويضيف قائلا: صحيح أن العالم يعاني الآن فيضان الأموال الرخيصة، لكن إذا قررت الصين الشروع في بيع الدولارات، فلن يكون هناك ارتفاع كبير في أسعار الفائدة الأمريكية. وقد تؤدي خطوة من هذا النوع إلى إضعاف الدولار مقابل العملات الأخرى، على الرغم من أن هذه النتيجة قد تعود بالنفع وليس بالضرر على القدرة التنافسية وعلى العمالة في الولايات المتحدة.
في تصوري، أن الاقتصاد الأمريكي سيفقد تدريجيا قوته العظمي، وستتراجع الولايات المتحدة لتصبح واحدة من الدول الكبرى وليس القوى العظمى. وسيبقى الدولار متذبذبا لبعض الوقت لكنه سيواصل فقدان مكانته الدولية تدريجيا طالما استمر تراجع الاقتصاد الأمريكي. واعتمادا على برامج الإصلاح وسلامة السياسات التي ستلتزم بها إدارة الرئيس أوباما سيتحدد مصير الدولار. لكن بعض العملات ستكسب قوة إضافية، بيد أنه سيصعب على أيها احتلال مكانة الدولار في المدى القريب. لقد غدت صورة العلاقات الدولية شديدة التعقيد بحيث يصعب تصور سيناريوهات بسيطة مشابهة لما حدث في النظام الدولي في منتصف القرن العشرين، لكننا قد نشهد في نهاية الأمر عالما متعدد الأقطاب. فما موقفنا من هذه الأحداث المتلاحقة؟ أترك الإجابة للأسبوع
*عن " الاقتصادية" السعودية