إفتح حسابك مع HFM
إفتح حسابك مع شركة XM  برعاية عرب اف اكس

ذكريات وتجارب من واقع خبرته

علي الحجبي

عضو ذهبي
المشاركات
176
الإقامة
فيينا - النمسا

- 1 -


جلست إليها ذات مرة لا لشيء إلا لأستفهم عن أمرٍ أهمني بشأنها ، كانت تُعِدُ طبقاً من التفاح المطبوخ ، وكانت قد جاوزت الأربعين بعامين ولكنها لم تتزوج بل إنها لا تقيم أية علاقة مع رجل ، كان فضولي وحيرتي أن المرأة وبالذات في العالم الغربي الذي أعيش فيه تتوق فيه إلى الولد أكثر من الرجل بمراحل ، بل إنهن لا يقمن للعلاقة الزوجية قدر بقدر همتهم المتوجهة للإنجاب أياً كان الرجل.
سألتها تلك المرة – والتي كانت الأخيرة التي أراها فيها وقد بلغت اليوم عمرها الستون – عن سر عدم رغبتها في الزواج أو الإنجاب؟ وكانت الإجابة صادمة لا بل محيرة:
قالت وهي تتنهد:
لقد عشت في بيتٍ يملؤه الحب مع أبي وأمي وإخوتي ، وكنت أرى أمي كل يوم كيف أنها أول من يستيقظ لتعد لنا فطورنا الصباحي قبل الذهاب إلى المدرسة ، وبعدها تقوم بتجهيز لوازمنا المدرسية وملابسنا ومن ثم تودعنا ، ثم تقوم بخدمة أبي وتجهيزه هو الآخر بعد إعداد وجبة فطوره وتودعه ، كذلك في المساء كنت أتابع حركاتها وهي تنتقل من مكان إلى آخر في البيت وهي تعمل بلا كل أو ملل مع تجهيزها لوجبة العشاء ، وبعد أن تفرغ من عملها كنت أشاهدها وهي آخر من يأوي إلى فراش النوم. لقد كانت تفعل ذلك بسعادة بالغة وهمة عالية.
واليوم وبعد أن كبرنا وكبرت بها السن جالت بناظرها حولها فلم تجد أحداً منا بجانبها ، لأن إخوتي قرروا أن يودعوها أحد بيوت العجزة ليوفروا على أنفسهم خدمتها ، وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل تعداه إلى أن أحداً منهم لم يكلف نفسه ولو للحظة أن يراها أو يطمئن على صحتها وحالها!
أنا هي الوحيدة التي تزورها يومياً وأقدم لها هذا الطبق الذي تراه.
وحينها توجهت إلي بقولها:
والآن هل تريدني أن أتزوج وأنجب أولاداً أعلم مسبقاً أنهم أول من يتخلى عني إذا ما كبرت بي السن؟ هل أنجب لكي أعيد مأساة أمي؟ صدقني إني أفضل البقاء وحيدة على أن أنجب أولاداً عاقين كإخوتي!!.
ودعتها حينها وأيقنت ساعتها أن معرض الحياة أكبر بكثير جداً مما أحسب وأظن ، وظلت كلماتها وفلسفتها في الحياة عالقة في ذهني حتى اليوم.
 



-2-


في حادثة تعد من الغرائب وهي تحكي كيف أن الجانب الغرزي للحياة يجعلك تقف مشدوها حائراً أمام أحداث وحقائق ولا تملك إلا أن تردد "سبحان الملك القيوم"

دخلت الأم إلى الحمام لحاجة ، وبينا هي في داخل الحمام إذ كانت الأرضية زلقة بسبب رش الماء فوقها ، وفي لحظة فقدت توازنها ووقعت على الأرض ميتة وقد سال الدم من رأسها.
البيت لا يسكنه سواها وابنها الذي شارف
على تعلم المشي فهو لا يزال يحبو حبواً.

هنا في بلاد الغرب بشكل عام لا يكاد أحد يسأل عن أحد ، وقد صادفت أناساً كثيرين من هنا يرددون نفس الكلمات عنا نحن العرب. أننا مجتمعات إجتماعية لدرجة كبيرة جداً ، فما أن يغيب عن ناظرنا أحد حتى نبدأ بالسؤال والاستفهام عن حاله وصحته.

العجيب في الأمر أن هذه السيدة أكتشف أمرها بعد مرور زهاء ثلاثة أسابيع. والذي حيرهم أنهم وجدوا الطفل لا يزال على قيد الحياة ومتسخ لدرجة منتنة.

وبعد إخراج الجثة ومعاينة المكان اطلعوا على السر الغرزي الكامن في كل حي عن بقاء الطفل حياً رغم كل هذه المدة التي قضاها وحيداً دون أن يحس به أحد سيما الجيران.

وجدوا أن الطفل قام بفتح باب الثلاجة وأخذ يلتقط كل ما يمكن أن تمتد إليه يداه من أكل ، حتى أنهم وجدوا من ضمن ما أكله علبه مايونيز. وظل على هذه الحال طيلة المدة.

ما يزيد الأمر غرابة أن الطفل اعتقد أن أمه لا تزال حية وبالتالي فهو لم ينس نصيبها من الأكل ، فكان يقترب بالأكل منها ويضعه في فمها. وحين قدوم الشرطة والطبيب الشرعي وجدوا في فمها وحوله بقايا طعام.

"
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى "



 
لا يسعنا إلا أن نقول سبحان الله
مشكور على القصص الغنية أخي علي
 
-3-

رجــل الثلــج

خرج رجل من بيته قاصداً القرية المجاورة والتي تبعد عن قريته بمسافة ليست بالقصيرة وذلك طلباً للرزق والعمل ، وحمل معه متاعه وزاده من مأكل ومشرب وانطلق سائراً على قدميه ، وبين هو سائر إذ خرجت عليه جماعة من اللصوص وقطاع الطرق وأصابوه في مقتل ولكنه استطاع أن يفلت منهم واختبأ بمغارة صغيرة كانت على طريقه وبعد أن فتشوا عنه ولم يجدوا أثراً له قفلوا راجعين وظل هو في المغارة يعاني من الإصابة. "انتهى"
كان الصباح جميلاً في تلك المنطقة الشاهقة الارتفاع من جبال الألب بمدينة شتايرمارك النمساوية ، فقرر الزوجان العجوزان اللذان يقضيان إجازة ممتعة على سفح جبل الألب الخروج والمشي على الثلج الذي يغطي المنطقة طوال العام ، وبينما هما يسيران إذ انحسر أمام أعينهما كومة من جليد كبيرة وبرزت منها جثة فاعتقدوا أن في الأمر جريمة وقاموا بالاتصال بالشرطة. "انتهى".
هاتان الحادثتان السالفتا الذكر حقيقيتان وقد حدثتا بالفعل، ولكن الملفت والغريب في الأمر أن الفاصل الزمني بين الحادثتين أو القصتين هو بالتحديد 3200 عام بالكمال ، نعم ثلاثة آلاف ومائتي عام . فبعد وصول الشرطة إلى المكان وجاء معهم الطبيب الشرعي اكتشف المفاجأة المذهلة أن الجثة لرجل مات منذ فترة طويلة ، ولم يستطع تحديد الفترة فاضطر إلى نقل الجثة إلى مختبر متخصص ليكشف عن الحالة الغريبة هذه ، وكانت النتيجة مذهلة للجميع فقد توصلت النتائج المخبرية إلى أن الجثة عمرها بالتحديد 3200 عام ، ولم يكتفوا بذلك بل إنهم نقلوا الجثة إلى مخابر أخرى في سويسرا والسويد والمذهل أن النتائج كانت متطابقة تماماً للنتيجة الأولى.
نعود الآن إلى مكان الجثة فقد قام البحث الجنائي النمساوي بالتفتيش والتنقيب عن المكان فعثروا على المغارة الصغيرة التي فر إليها الرجل حين طارده قطاع الطريق ، وحين دخلوا إلى المغارة وجدوا سهامه وقوسه كما هي لم تتغير ولم تندثر بالإضافة إلى إناء الأكل وعليه أكله والإناء الذي يضع فيه الماء.
أخي الكريم أختي الكريمة.
إذا ساقتك قدماك إلى مدينة الجمال والموسيقى والفن فيينا فلا تنس أن تمر بالمتحف الوطني ، فهناك ستجد رجل الثلج وهو شامخ في وقفته وبجانبه سهامه وقوسه وإناء طعامه محفوظة ولسان حاله يقول لزائريه " قدرة الله أعظم وأكبر ووجودي هنا دليل على هذه القدرة".



 


[font=&quot]-4-[/font][font=&quot][/font]
جمال اللغة العربية
[font=&quot] [/font]
مرات عدة التي أسمع فيها أناساً كثيرين من أصقاع الدنيا لا يملكون إلا أن يطربوا ويستهويهم سماع اللغة العربية حين أتحدث بها أو يسمعونها مسجلة. وكانوا كثيراً ما ينبهرون لجمالية الإيقاع والنغمة الموسيقية في تضاعيف الكلمات العربية.
في عام 1992 وبعد قدومي للدراسة في بلاد الغرب كنت اهتبلت ذات مرة فرصة الاستراحة لأشغل على الجهاز القرآن بصوت اسطورة القراء عبد الباسط رحمه الله ، حينها توجهت إلي سيدة روسية كانت تدرس معي اللغة حينها وسألتني عن المتحدث فأجبتها. حينها طلبت مني أن تأخذ الشريط معها لمدة يومين تسمعه. وبررت طلبها أن الكلام والصوت غير عاديين بالمرة.
من عادتي حين كنت أعمل بأحد مكاتب الاتصال أن أستمع لمحاضرات أستاذي وشيخي الفاضل العلامة السوري عبد الرحيم طحان الحسيني أمد الله في عمره وحفظه، ولا يخفَ أن للشيخ صوتاً وتضلعاً من لغة العرب بشكل ملفت للنظر. وقُدِر أن كان أحد أهل البلد بجانبي يصغي للصوت وبتأثر ، بعدها توجه إلي بالسؤال: عن اللغة المستعملة في المحاضرة فلما أخبرته قال: إن لها وقعاً غريباً وسحراً قل نظيره.
البروفيسور فرانس أستاذ اللغة الألمانية بمعهد جوته الذي درست به وكان هو أحد أساتذتي هناك يقول عن نفسه: إنه لا يمر عليه صباح إلا ويبدأ يومه بصوت الشيخ محمد صديق المنشاوي رحمه الله، وأخبرنا أنه جد متحمس لسماع جهاز الراديو من القاهرة لما وجد من قوة وتناغم وترانيم في اللغة العربية.
الأمر الذي يثير التعجب والغرابة أنه قال: حين أستمع لقراءة الشيخ المنشاوي يخالجني شعور أن ما يقوله هذا الرجل ليس من كلام البشر، مع العلم أن البروفيسور فرانس لا يحسن العربية ولا يدري عن القرآن شيء. ومع هذا انتابه هذا الشعور المفعم بالحيوية من كلام الله ومن جمال هذه اللغة التي أنزل بها. فسبحان المعطي الوهاب.

ملاحظة: الحديث هنا عن اللغة العربية الفصيحة. أما اللغات العربية العامية فعذراً لقولي إنها كارثية ولا تمت إلى الجمال والنغمة بشكل من الأشكال.




 
- 5 -

العــم خليــل


حين تقترن المصائب والآهات بعالم الغربة يكون الألم أشد فتكاً وضراوة، فالبعض منا وربما كلنا عاش طفولة لا تكاد تختلف عمن حوله إلا النزر اليسير، ففي العالم الشرقي عامةً يعيش المرء مرحلة الطفولة ليجد نفسه أمام مرحلة الشيخوخة والهرم دون الحاجة للمرور بعالم المراهقة والشباب والكهولة.
جلست إلى العم خليل رحمه الله وتغمده بواسع رحمته ذلك اليوم جلسة لم تتكرر بعدها أبداً، الوجوم والهموم بادية على وجهة المجعد وأصبحت الحركة لديه تحتاج لمجهود فعل عامل الزمن والكبر فقد جاوز عمره الثمانين. كانت تلكم الجلسة في أحد مساجد فيينا حيث يقيم العم الخليل ويمضي معظم وقته، فأين سيقضي وقته وإلى أين سيذهب! فلا ولد ولا تلد ولا أهل ولا أقارب، خرج منذ عقود من بلده الأم ومسقط رأسه العراق الحبيب وجاء هنا ليبحث له عن موطن قدم في هذا الأمشاج من الحق والباطل كغيره من بني البشر ممن طوحت بهم الأيام وخانتهم دولهم ومسؤوليهم فخرجوا هائمين على وجوههم باحثين عن شيء افتقدوه هناك حيث كان أن يكون.
جلست إليه تلك الجلسة اليتيمة ليحكي لي عن سنين وعقود من الزمن البعيد والتي لم أكن يومها موجوداً، إلا ان الحديث سلك طريقاً آخر كان أكثر حراجة وأكثر إيلاماً وأخصر لتعريف الحياة لدينا نحن الشرقيين.
شعور بالوحدة، ألم الفراق والبعد عن الموطن الأم، الطفولة المُرة التي عاينها وأبرزت له وجهها الكالح... كان أكثر ما شدني في حديثه هي تلك الصورة التي وضعها عن نفسه حين كانت طفلاً غراً يتوق لأبسط الألعاب ويريد أن يطلق العنان لنفسه لتسرح في هذا العالم دون أن يمسكه الواجب والمسؤولية المبكرة. كان يتحدث معي عن أحد المعارف بالمسجد كيف أنه لا يترك ابنه يحتاج شيئاً إلا ولباه له، بل لا يخطو الأب خطوة إلا وابنه بجانبه، حينها حادثني العم خليل وكأنه يزيح جبلاً جثم لعقود على صدره وهو يقول: أنا لم أعامل كابن فلان ولم أعش الحياة كما عاشها وما كان في مقدور والدي أن يرفهني ويجلب لي كل ما أشتهيه وأحبه. كانت طفولتي تتسم بالمرارة ويعتصرها قلة ذات اليد وقلة الوعي باحتياجات طفل وجب عليه أن يحمل مسؤولية ويصارع الحياة بعقلية كهل جاوز الثلاثين.
ودعته ذلك اليوم وأنا أضرب أخماساً بأسداس وقد قلب علي هذا الرجل الثمانيني حوادث ومواقف كانت قد ركنت في مكان ما من دماغي ضمن كراكيب كثيرة، مواقف وحوادث وأحاسيس لم أُطلع عليها أحد ولن يخبرها أحد غيري.
بعد هذه الجلسة العصرية مع العم خليل بأشهر معدودة كنت في زيارة لأحد أحبابي في دكانه، فما أن جلست حتى بادرني بالسؤال إن كنت أعرف العم خليل أم لا؟ فأجابته بالإيجاب. فقال: لقد ارتحل قبل يومين عن دنيانا وذلك حين قدم الأخوة لصلاة الفجر ولما أرادوا أن يوقظوه كان ملك الموت قد سبقهم إليه.
قبل سنوات مضت زارنا هنا الشيخ العلامة البوطي طيب الله ثراه ورحمه رحمة واسعة، فطلبت من أحد إخواني أن يعطيه سؤالاً على لساني يتضمن السؤال أن يحدثنا عن بعض من علمائنا الذين ارتحلوا عنا منذ عقود متطاولة –إلا أن قِلة يسيرة من تعرف هؤلاء للأسف!-، بعدها جاءني الأخ الفاضل وقال لي: حين بادرت الشيخ بسؤالك كادت عينه أن تدمع ثم قال: أما زال هناك في هذا البلد من يتذكرهم؟.
وأنا الآن أجدني أتساءل وأطرح ذات السؤال التعجبي من شيخنا البوطي رحمه الله: يا تُرى أيكون من بيننا اليوم أحدٌ يتذكر العم الخليل!؟.




 
رائع اخ علي قصص حزينة و لكن مليئة بالعبر و تدعو الانسان لمراجعة طريقة عيشه و للتفكر اكثر
شكرا لك
 


-6-

هيــلـڤـــا


" عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كيف أنتم ، كيف حالكم ، كيف كنتم بعدنا ؟ قالت : بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله . فلما خرجت قلت : يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال ؟ فقال : يا عائشة إنها كانت تأتينا زمن خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان ".


لم أره منذ ست سنوات، دعاني لبيته لأمر أهمه وطلب مني أن أساعده، كان وحيداً وقد جاوز الواحدة والثمانين عاماً، عاش معظم حياته مغترباً عن بلده الأم، فقد غاردها وهو لا يزال بسن العشرين، كان ذلك عام 1954 ومن بعدها لم يزر موطنه الأم إلا مرة واحدة فقط كانت بالسبعينيات من القرن المنصرم.

بعد أن أنهينا جلستنا في مكتبه ببيته خرجنا سوياً، وتوقفنا لبرهة عند باب العمارة نتجاذب أطراف الحديث ما بين ماضٍ وحاضر، كانت السنون قد خطت على وجهه أثارها وتركت الذكريات في كراكيب عقله ندباً ومسارات لا أظن أن به رغبة لأن يمحوها أو يدسها في مكان ما مظلم من ذاكرته.

استوقفني في حديثه تلك الوقفة التي تحدث فيها عن زوجته الراحلة هيلڤا، السيدة التي عرفتها كشعلة من نشاط وحركة دؤوبة لا تكل ولا تمل من العمل، كانت كما وصفها منارة البيت والقلب النابض لحياته كمغترب. بعد أن أصيبت بجلطة بشهور كنت في زيارة عملٍ في مكتبه، وطلب مني أن أرافقها إلى البيطري صحبة قطتها، لم أصدق أن من تمشي بجانبي هي تلك السيدة التي أذكرها من سنين خلت، فقد اختفى كل شيء فيها، وأصبحت المسكينة لا تستقل بأمرها، وأحسست بداخلي بألم يعتصرني ويفقدني لذة الحياة لبرهة من الزمن. فقد أدارت لها الحياة وجهها القبيح وأحالتها إلى كائن بئيس. ولكم كان ألمي مريراً حين مدت الورقة التي بيدها ولوحت بها أمامي وهي تقول: أتصدق أنني لا أستطيع قراءة ما في الورقة؟.

سأكتفي هنا بذكر موقف أو حادثة حصلت مع زوجها الدكتور بعد وفاتها حين ذهب إلى مكتب شؤون الضرائب والتركات، فقال له المسؤول عن ملفها: إن السيدة هيلڤا لم تأخذ يوماً واحداً إجازة من عملها طيلة الأربع والأربعين سنة التي قضتها موظفة بالشركة.

كانت عباراته عنها في تلك الوقفة أمام البيت كنبراس يحتذى به في الوفاء والتبجيل، كان يتحدث عنها بحرارة وحزن شديدين، ويخيل لكل مستمع له أنه يخرج الكلام عنها مصبوغاً بالدم الأحمر القان، لما يجد هذا العجوز من فقدها.

" لا أحد في هذه الدنيا استطاع أن يفهمني كما فهمتني هيلڤا، ولا أحد أمن علي منها، فقد صحبتني لعقود متطاولة كانت نعم الزوجة والأخت والأم الحانية الرؤوم. وكانت مصدر سعادتي، وكنت أرى فيها ومن خلالها الدنيا مبتهجة وتبعث على التفاؤل الذي افتقدته منذ رحيلها، وحين أجلس وحدي ويمر بخاطري ذكراها تتحدر دمعتي رغماً عني وأجهش بالبكاء حسرةً على فقدها ولوعة لغيابها الذي أفقدني كل متع الحياة ".

كنت أستمع إليه وأنا في حالة وجوم وينتابني ما ينتاب كل ذو حس حين يفقد عزيزاً أو حبيباً، وحينها تذكرت حديث سيد الخلق عليه أفضل الصلوات والتسليمات والذي افتتحت به مقالتي هذه، وأكبرت في هذا العجوز روح الوفاء والحنين لزوجته الراحلة. وودعته بعدها على أمل اللقاء به ثانيةً، وسرت في طريقي وأنا أراجع في مخيلتي حديثه المحزن عن زوجته السيدة هيلڤا.



والآن سيدي القارىء, سيدتي القارئة, اسمحا لي بسؤال: هل وجدتم في نفسيكما بعد هذا التجوال رغبةً ملحة وقوية وصادقة في التعبير لمن تحب عما تشعر به حياله أو حيالها كنوع من حسن العهد والوفاء؟..







 
كلمات رائعة و مؤثرة اخي الحبيب علي

الغريب دائما اننا لا نقول لمن نحبهم بمشاعرنا و لا نعبر لهم عن حبنا

حتي يأتي الفراق فنتمني لو لحظة فقط نقول لهم كلمة تعبر عما بداخلنا اتجاهم
 

- 7 -

حياة وسعادة!


كم أمقت أولئكم الذين لا حديث لهم إلا عن الموت، كأنه معصوب بجبيننا أن لا نعيش الحياة بسعادة وراحة بال، ولعل من يلاحظ هذه الفئة من البشر يدرك أي نوع من التعاسة التي حشروا أنفسهم بها واعتزلوا حياتهم وكأن الحياة أصبحت لعنة وكارثة وبالتالي لا ينبغٍ أن يعطيها وزناً.
هذا المنطق يختم به الإنسان على حياته والتي طالبنا المولى عز وجل في كتابه ألا ننسَ نصيبنا منها، وحتى مفهوم الزهد انقلب رأساً على عقب لدى القوم، رغم أن فهمي للزهد هو أن تملك الدنيا بيدك دون أن تأسر قلبك. أما أن يزهد المرء فيما لا يملك فأي زهدٍ هذا؟!.

كنت في عملي ذات مرة بالمشفى كمترجم عن المرضى ممن لا يجيدون لغة البلد التي أقطن بها. وبينا أنهيت جزءاً من عملي جلست ألتقط أنفاسي لمتابعة الترجمة حال يأتي وقتها، وفي الأثناء كان أحد المرضى من أهل هذه البلد يتمشى في ردهات المشفى، وكان دائم الابتسامة ويحيي كل من يلقاه، حين لمحته خيل إلي أنه في العقد السادس من عمره.
كانت علائم البهجة والمرح والسرور بادية على وجهه بشكل ملفت، وحين أتم جولته جلس والبسمة لا تفارقه، فاهتبلت فرصة جلوسه وقد دفعني الفضول لأن أتعرف عليه وأفهم سر هذه الحيوية والسعادة التي تغمره خاصة وأنه بمشفى، أي أنه يتعالج.
جلست بجانبه وقمت بتحيته والسؤال عن أحواله، فأخبرني أنه بخير وفي حالة جيدة. ثم بادرته بالسؤال عن إقامته هنا إن كانت جيدة وطيبة. فقال أنه لا يشتكي من شيء فالكل هنا طيبون وادعون لطفاء. فسألته إن كان أحدٌ ما يزوره من أهل أو أقارب؟ ... وهنا كانت المفاجأة ....

قال لي: في الحقيقة لا!.. لا أحد يأتي لزيارتي فأنا وحيد، ..... أنا الآن أبلغ من العمر "96" عاماً ( مواليد 1916 )، وقبل سبع سنوات ارتحلت زوجتي عن دنياي، وأنا متقاعد منذ 36 عاماً، فبادرته فأين الأصدقاء والزملاء؟! ، قال: كان لي 75 ما بين أصدقاء وزملاء عمل، ارتحلوا جميعهم عن الدنيا وودعتهم الواحد تلو الآخر، وأنا الآن أعيش وحدي لا زوجة ولا ولد ولا أصدقاء.
سألته والدهشة وهالة الحزن تملأ وجهي عن كيف تقضي وقتك إذاً؟ فقال لي ولا تزال البسمة تفيض من وجهه النير: أنا أحب الطبخ وهو مهنتي التي أجيدها ولذلك أجد سعادتي في هذا العمل.
[font=&quot]كان هذا في أوائل شهر يناير من عام 2013، قمت من عنده لمواصلة مهنتي في المشفى وودعته ذاك اليوم وتمنيت له الشفاء العاجل والعودة إلى بيته سليماً معافى، فشكرني بدوره على الجلوس إليه والاستماع له. وخرجت من عنده وعشرات الأفكار والمسائل تدور برأسي وما من جواب وما من سؤال.



[/font]
 

- 8 -

وماذا بعد ؟


[font=&quot] كنت جالساً كعادتي في مكتبي أثناء عملي بالمركز الإسلامي ، وكأي يوم ترد علي الكثير من المكالمات بعضها يستفهم والآخر يطلب وذاك يريد المفتي في شيء مهم وخاص ، وفي ذاك اليوم من أيام صيف عام 2000 جاءني اتصال من سيدة فاضلة من البلد الفلاني ، تطلب مساعدتها في رؤيا قصتها علي تخص جارتها المسيحية.[/font]

ليست الرؤيا هي مدار حديثي وإنما ما حل بهذه السيدة ، والتي لولا أني وقفت على بعض ما أصابها من خلال ملفها الموجود لدى مكتب الإفتاء ما كان تصديقي لكلامها سيكون هيناً. إنه الوضع الذي بدأت في السنوات الأخيرة أكره حتى مجرد المرور عليه لعلمي أن مصائبنا فاقت كل حدود وما عاد من الحكمة أن أقلب صفحات الحاضر على مجازر وقتل وظلم وتعسف وهجر وتفقير إلى آخر القائمة السوداء التي برعت أمتنا للأسف في إجادة صياغتها وتمريرها للآخر على أنها خبر يملأ الفراغ. سيما وأننا أصبحنا ليس فقط في نظر الآخر غبارً بشريا بل حتى بين بعضنا البعض.

بدايتها كانت – وهي تحادثني – عندما أختطف زوجها وتم اغتياله على يد مجرمي إحدى الدول ، وظلت فترة طويلة لا تدرٍ عنه شيئاً إلى أن تكرموا عليها بإخبارها أنه تم تصفيته.

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد فقد ظن الأوغاد أنها دامت زوجته فلابد وأن لديها أسراراً ، وهنا قصت علي كيف تم إكرامها والاحتفاء بها في إحدى الزنزانات المعتمة والحالكة السواد ، فقد ظلوا وعلى مدى أيام وأسابيع وهم يتقاذفونها كالكرة بينهم ، ولم يتركوها حتى تأكدوا أنها لا تملك ما يسعون وراءه.

قالت ذات يوم كان طفلي الصغير ماسكاً بشباك البيت يلعب وإذا برصاصة طائشة تخترق جسده النحيل وقد تخشب بين يدي.

وظلت المكلومة تعاني الأمرين حتى سنحت لها الفرصة الذهبية في اللجوء إلى أوروبا وتحديداً بلد النمسا, وكان لها ذلك ، إلا أن فرحتها العارمة هذه بوصولها إلى بر الأمان لم تدم طويلاً ، ويبدو أن ما حدث معها قد تسبب لها في ورم خبيث كاد أن يقضي عليها. وهنا بدأت مأساة جديدة تضيفها إلى حزمة المآسي السابقة.

قالت لي: بعد أن علمت بمرضي كان لزاماً علي أن أبحث عمن يساعدني حتى أتم شفائي وعلاجي الذي يكلف الكثير من المال ، وبدأت بطرق الأبواب الواحد تلو الآخر وما من مجيب. قالت لقد كانت صدمتي كبيرة وغير متوقعة حين أتيت إلى أحد المسؤولين الكبار وسألته ورجوته أن يساعدني ويخلصني من هذا المرض. وبدل أن يواسيها أخذ بالتهكم عليها وزجرها. وهنا أحست بالمرارة الفاقعة والانكسار ، فلا أحد يرغب بمساعدتها ولا أحد يريها الطريق من أين وتفجع في آخر الأمر أن كلاما كالسم الزعاف يخرج من مسؤول لديه من القدرة والإمكانيات ما يحل مشكلتها بجرة قلم. أين الأخوة أين المروءة أين الترابط أين الإيثار؟ كله موجود ولكن في كتب المناهج فقط.

ساعتها كان لابد مما ليس منه بد ، فقد تنصرت وبمجرد تنصرها تكفلت الكنيسة بدفع كل مصاريفها للعلاج. وقد كان ما تمنت وأرادت وفك الله أسرها من المرض العضال.

كان كثر ما آلمني في مكالمتها قبل أن تختم قالت لي: صدقني كان بإمكاني وبسهولة بالغة أن أنحرف وأتخذ من الرذيلة طريقاً للوصول إلى كل ما اشتهي وأرغب ، ولكن نفسي أبت الذل ورأيت أن الخير في الناس لايزال ، ولعل الأمر لا يحتاج كبير عناء إلا وأجد ضالتي بإذن الله. ولكن الواقع كذب تصورها.

لم أسمع صوتها منذ تلك المكالمة قبل 17 عاماً ، وانقطعت أخبارها من تلكم اللحظة وما أدرِ أين طوحت بها صروف الدهر ، ولكن قصتها ظلت محفورة في ذاكرتي.









 
اهلا بالاخ الكريم و السيد الفاضل علي الحجبي نورت المنتدى
طولت علينا , طمنا عن اخبارك و عن صحتك
وين هالغيبة
:wub:
 
اهلا بالاخ الكريم و السيد الفاضل علي الحجبي نورت المنتدى
طولت علينا , طمنا عن اخبارك و عن صحتك
وين هالغيبة
:wub:


حيا الله الفاضل و الحبيب وسام , والمنتدى لا ينور إلا بأهله المخلصين أمثالك, وبارك الله فيك عن السؤال.
أخي وسام أحمد الله على كل حال, أما سبب غيبتي فلا أكتمك حديثاً فالعام المنصرم كان عام حزن وبلاء وأسأل الله العافية والسلامة ، وما استعدت بعض قواي إلا مع حلول هذا العام وأرجو من الله أن يكرمني فيه وإياكم ويجعل فيه خيراً كثيراً.
حدثني عن جديدك وما جد لديك. حفظ الله الجميع وزادكم من فضله.
 
حيا الله الفاضل و الحبيب وسام , والمنتدى لا ينور إلا بأهله المخلصين أمثالك, وبارك الله فيك عن السؤال.
أخي وسام أحمد الله على كل حال, أما سبب غيبتي فلا أكتمك حديثاً فالعام المنصرم كان عام حزن وبلاء وأسأل الله العافية والسلامة ، وما استعدت بعض قواي إلا مع حلول هذا العام وأرجو من الله أن يكرمني فيه وإياكم ويجعل فيه خيراً كثيراً.
حدثني عن جديدك وما جد لديك. حفظ الله الجميع وزادكم من فضله.

الله يبارك فيك اخي الحبيب و انا مقصر بحقك فأرجو المعذرة منك و لكنها الحياة و مشاغلها
فرج الله همك و نسأله تعالى أن يكون هذا العام عام خير و سرور لقلبك و يعوضك عما مضى ,
ادعو لك بالشفاء و العافية عاجل غير آجل فأنت لا تستحق الا كل خير
اما عن جديدي فلنا حديث بإذن الله تعالى
تحياتي لك
 




-9-
موت الوجدان


هل دار بخلدك عزيزي القارئ عن السبب الرئيس في تشوقنا لسماع حكايا الآخرين وأزماتهم حين نكون في وضع مؤلم ألمَ بنا؟ إنها الحاجة لنتسلى عن مصابنا ونستسهل ما نحن بصدده إزاء ما نسمع من مآسي وطوام الآخر.
يقول محدثي: كنت في سيارة رفقة صديق لي يسير بي في أحد شوارع المدينة الرئيسة، وبينا هو يقود إذ توقف فجأة، وما هي إلا ثوان حتى فتح الباب فتاة في ريعان شبابها ومعها أختها الصغرى وصعدا السيارة، علم محدثي من صديقه أنهما يتيمتان وقد جرَّتهم الحاجة إلى طريق السوء.
قال: فالتَفتُ إليهما لأَخبُرَ أمَرهما وبادرتُهما بالسؤال: ما الذي حملكما على السير في هذا الطريق؟
قالت الكبرى: إنها الحاجة!!!. كان أبانا رجلٌ ذو مكانة في الدولة، ولما توفي تنكر لنا الجميع، وكنا نتمنى أن الحال توقف عند هذا المآل، والذي لا يمكن أن يتخيله بشر أن رفاقه الذين عاشروه وعاشرهم في السراء والضراء، ومن ربتوا على أكتافنا يوم دفنه وأسروا لنا أنهم مكان والدنا ولن يتركونا هملاً، كانوا هم أول الجناة في حقنا وهم من أوصلونا إلى ما نحن فيه الآن، وارتكبوا في حقنا مالا يخطر ببال أحد من الخلق.
وقبل مدة أصيب أخانا الأصغر بمرض لا علاج له هنا في هذه البلاد، والحل الوحيد الناجع لحالته أن يسافر ويباشر العلاج، وها نحن إلى الآن نسعى جاهدين أن نجمع المال - بعد أن سدت جميع الأبواب في وجوهنا – حتى يتسنى لنا أن ندفع مصاريف رحلة أخانا وعلاجه في الخارج. وهنا ترى كيف أن الحاجة اضطرتنا لركوب الصعب، وكيف أن من كنا نظنهم السند والستر لنا بعد فقد والدنا صاروا هم السبب فبما نحن فيه الآن.
كنت واجماً طيلة حديثه، ثم خرجت أتمشى قليلاً وكان أول ما بدر لي أنني حمدت الله تعالى على نعمة الآخرة، وأن هناك حساب وجزاء، وما أحوج البشرية لذاك اليوم. فما أكثر المظلومين وما أكثر من أفلت من يد العدالة الأرضية وعاش حياته كغيره من البشر لا بل وأفضل مع ظلمه وفجوره. اللهم لك الحمد يا رب....




 
عودة
أعلى