- المشاركات
- 19,998
- الإقامة
- تركيا
سيطر ما يعرف بـ"الدولار المجمد" على عديد من أسواق الشرق الأوسط، وهو دولار حقيقي غير مزيف ولكن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) قد سحب أرقام هذا الدولار التسلسلي من التداول وأوقف التعامل به تماماً وتبعه في ذلك كل البنوك والمصارف والعالمية.
و"الدولار المجمد" هو عملة أميركية سليمة تماماً ومطبوعة بصورة نظامية ولم تخضع لعمليات تزييف أو تزوير أو تلاعب، وحتى إنه يمكن تداولها بصورة طبيعية وبسيطة، لكن بشرط وحيد، أن يكون ذلك التعامل بعيداً عن المصارف والبنوك الرسمية العالمية التي يمكنها ضبطه بسهولة بناءً على توجيهات الفيدرالي الأميركي.
وصلت إلى سوريا
ولم يكن "المجمد" ببعيد من السوق السورية بعد اندلاع الحرب فيها إذ غزاها إلى جانب الدولار السليم وصار التمييز بينهما مستحيلاً فصارا بالتوازي مقصد التعامل الأبرز والضامن الأمتن لقيمة المال في ظل تهاوي العملة المحلية (الليرة السورية)، التي انهارت أكثر من 300 ضعف خلال سنوات.
وتلك "الدولارات المجمدة" التي وصلت كميات كبيرة منها إلى سوريا، فهي بأكملها، منهوبة ومسروقة ومهربة من دول شهدت حروباً أو ثوراتٍ أو اضطراباتٍ أمنيةٍ كبرى، والأمثلة الأبرز هي بعض الدول العربية التي شهدت اضطرابات في العقدين الماضيين، والأهم بينهم بحسب ما يمكن مقاطعته من مصادر متنوعة هي ليبيا التي نُهِبت مصارفها بكل ما كانت تحويه من كنوز رقمية هائلة بالدولار الأميركي.
ولمكافحة التعامل به وتحجيم وجوده كان الإجراء الأول تسميته "المجمد" وما رافقه من إجراءات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، لما تشكله تلك العملة من مخاطر احتيالية توقع الدولة المتعاملة به تحت وطأة عقوبات مفترضة، وفي ما خلا العقوبات، من غير المرجح أساساً أن تلجأ دولة للتعامل به استناداً للاتفاقيات الدولية الاقتصادية المبرمة في اختصاص التعامل النقدي وسهولة كشف تلك الأموال.
لأنها الحرب
وكانت سوريا سوقاً واسعة ومرحبة بتلك العملة إلى جانب دول أخرى، من بينها العراق على سبيل المثال، حتى إن اقتصاديين سوريين عدة باتوا يعتقدون أن ما يتداوله الناس داخل البلد هو بمعظمه من تلك الفئة ما لم يحوزوا عليه بطريقة شرعية كاستجلابه معهم خلال دخولهم إلى بلدهم.
ظرف الحرب العام في سوريا، والتعامل الداخلي غير الشرعي بالعملة الأجنبية، ممنوعة التداول قانوناً، والمجرمة بمراسيم تشريعية، واستبعاد البنوك عامة من التعامل مع الأرصدة بصورة يومية مع بنوك أخرى، بعكس الحال لو لم تكن هناك عقوبات مصرفية على النظام السوري. كل ذلك جعل هذه الأوراق تسيطر على السوق، وهذا افتراض يمكن تبيانه من خلال استحالة تدقيق فرد بسلامة ما يحوزه من دولارات مع أي جهة كانت لسببين: الأول تجريم التعامل به، والثاني مصادرته إذا كان مجمداً، وبالتالي مواجهة المالك لعقوبات قانونية قاسية. وربما يكون هناك سبب ثالث وهو: هل يستطيع البنك المركزي السوري كشفها أساساً إذا لم تكن أرقامها متسلسلة من دون جملة إجراءات روتينية مطولة قد تبدو ترفاً للطرفين معاً، مع ضرورة الأخذ بالسببين الأولين بكل الأحوال.
واحد بثلاثة
يباع كل 15 ألف دولار مجمد مقابل خمسة آلاف دولار سليمة وأحياناً مقابل أربعة آلاف، يمكن بحسبة وسطية القول إن كل دولار سليم يشتري ثلاثة دولارات مجمدة، أقل أو أكثر أحياناً، بحسب العرض والطلب المتبدل بين شهر وآخر، ويكاد يكون يستحيل كشفها حتى بين الصرافين وخبراء العملة فتنتقل من يد لأخرى سامحة للبعض بكسب ثروات كبرى، وهذا ما يجعله مرغوباً كنوعٍ من تجارةٍ سريعة ورابحة وفي نفس الوقت خطرة، ولذلك أسبابه.
عصابات تجتاح المجمد
ووصلت تجارة الدولار المجمد حدوداً علنية وباتت منتشرة بوفرة واسعة وملحوظة ومباشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن في ذلك الانتشار ثمة ثغرة يمكن لحظها، وبالضبط يمكن تشبيهها بحال المخدرات في سوريا، فالسوري لا يرى المخدرات حوله كيفما التفت، ولكنه متى أراد يمكنه الحصول عليها.
ورغم كل عروض بيع الدولار المجمد على الإنترنت، فإن الأمر بات يكتسب صفة المغامرة والمخاطرة مع الوقت بعدما تولته عصابات لا يمكن القول إنها منظمة باحترافية، ولكنها صارت تسلك طريقين في البيع، الأول هو القيام بعملية تبديل بشكل نظامي شكلاً، ولكن بدل منح المشتري دولارات مجمدة، يعطونه دولارات مزورة لا تكلف ثمن طباعتها غالباً، يصعب على المستفيد فحصها لدقة صناعتها.
أما الطريق الثاني، فصار يكمن عبر مواعدة المشتري في مكان على طريق عام، أو داخل حيٍّ معين ينتمي إليه البائعون، وحين يصل إليهم المشتري يتعرض لعملية سلب بالعنف وربما ضرب أحياناً، وهذه الحادثة حصلت عشرات المرات فعلياً، وهي ما جعلت نشاط هذه السوق يهدأ قليلاً في الآونة الأخيرة، وبالطبع لا يستطيع المشتري أن يتوجه إلى الشرطة وتسجيل ادعاء ولو كان ما خسره 100 ألف دولار، فالقانون سيسجنه أولاً استناداً للقوانين التي تمنع التعامل بالعملات الأجنبية مهما كان نوعها، ويضاف إليها جريمة محاولة شراء قطعٍ أجنبيٍ مطارد بوصفه مسروقاً.
مفاوضات متاحة
"اندبندنت عربية" تواصلت مع أحد أولئك الباعة، وبعد أن طلب أربعة آلاف دولار سليمة مقابل 15 ألف دولار مجمد، قبِل بعد تفاوض بـ3300 دولار سليم، قبل أن ينتهي الاتصال باتفاق على اتصال آخر لتحديد موعد التسليم الذي لمح البائع إلى أنه سيكون في إحدى المناطق قرب الطريق الدولي بين مدينة حمص وسط البلاد ومدينة طرطوس الساحلية.
في الاتصال الثاني لتحديد مكان التسليم طلبنا منه اتفاقاً آخر يقضي بأن تجري مبادلة 200 دولار سليمة فقط على 700 دولار مجمدة، وتعليل خفض الرقم بحجة تجريب صرفها في السوق، فقبل على الفور. جملة المؤشرات التي حكمت البائع خلال إتمام عملية التفاوض متضمنة مكان التسليم، كلها كانت إشارات تثبت أنه واحد من أولئك الذين ينتمون لعصابات الدولار.
وصار معروفاً أن آفة الجريمة يصحبها سوء الحال الذي دفع أناساً كثراً ليصيروا مطلوبين للعدالة من دون أن يكون لديهم رادع عن ارتكاب جريمة لأجل أي مبلغ، وقد ارتُكبت بالفعل جرائم قتل لأجل مبالغ لم تصل لـ100 دولار ونشرت وزارة داخلية النظام كثيراً من القصص عن ذلك. واللافت أن البائع عطّل حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي بعد محادثته بنحو ثماني ساعات.
"نجوت من كمين"
وروى أكثر من شخص لـ"اندبندنت عربية" كيف وقع ضحية بشكل أو بآخر لعمليات النصب تلك، وكل تلك العمليات تكاد تكون متشابهة، ويجمع بين كل أصحابها عدم رغبتهم في الإفصاح عن هويتهم خشية تعرضهم لعواقب قانونية لما يعرفون سلفاً أنه كان مخالفة، وفي المقابل ظفر آخرون بدولارات مجمدة من دون مخاطر.
ومن بين الضحايا شاب يرى أنه لم يرتكب جرماً، فوفق القانون هو غير مذنب لأنه لم يشترِ أو يبيع. الشاب اسمه، مهذب ريحان، وقد اتبع نفس طريقة تأمين اللقاء مع البائع عبر الهاتف، وكان يفترض أن يلتقي الشاب في إحدى النقاط على طريق "المتحلق" خارج العاصمة، وهو طريق طويل ويكاد يكون موحشاً في بعض الأوقات رغم أنه يصل في نهايته إلى مطار دمشق.
ويقول "اتفقنا على تبديل أربعة آلاف سليمة بـ10 آلاف مجمدة، فأخبرني بالمكان بالضبط وإنه سيكون واقفاً وحيداً على حافة الطريق مرتدياً ملابس معينة، قبل أن أصل إليه بأمتار قليلة انتبهت لدراجة نارية خلف شجرة قريبة منه وبدا لي ظل شاب أو اثنين، ماذا يفعلان في هذا الوقت هنا، وعلى بعد أمتار عنه؟ استشعرت الخطر وأكملت بسيارتي من دون أن أتوقف، ولربما لو توقفت حينها لحصلت مصيبة، ولم أكرر تلك التجربة، صرت أسمع قصصاً كثيرة مخيفة".
السياسة الأمنية
ويمتلك النظام السوري أجهزة أمنية مدنية كقيادات الشرطة في المحافظات، وما يتفرع عنها من أقسام شرطة في المدن والأرياف، وأفرع أمن جنائي، وأفرع مخدرات، وأقسام مكافحة التزييف والتزوير، وبمجملها تتبع وزارة الداخلية، تتولى متابعة تلك القضايا عبر تحقيقات موسعة تقود خيوطها لشبكات وأفراد متورطين بعمليات قد تبدأ بالدولار وتنتهي بالخطف ولا تُستَبعَدُ حالات القتل من ضمنها مروراً بممانعة أفراد الضابطة العدلية وإطلاق النار عليهم واستخدام القنابل.
أحد الضباط المعنيين بالملف تحدث لـ"اندبندنت عربية" طالباً عدم كشف اسمه، وقال "إن قاعدة البيانات التي تملكها وزارة الداخلية باتت كبيرة فعلاً عن تلك العصابات التي بدأت تنظم نفسها أحياناً ولو على نطاق أقرب للفردي من حيث قلّة عددها". وأوضح "غالباً تبدأ القصة عبر إلقاء القبض على شخص بقضية قد تكون بعيدة تماماً عن ذلك الملف، كأن يتم إلقاء القبض على شخص يتعاطى حبوباً مخدرة وهو عملياً جرم مخفف قانوناً، ولكن يتم التوسع بالتحقيق معه، فمن كان مجرد متعاط فعليه أن يدلّنا على مصدر المخدرات، أو على الأقل المتعاطين معه، ثم باستمرار التوسع بالتحقيق نبدأ باكتشاف قصص كثيرة تصل أحياناً لجرائم أو سلب بالعنف أو خطف أو ممانعة دوريات أو تهريب أشخاص أو اتجار بالبشر أو التعامل بالدولار السليم أو المجمد". ويتابع، "مثلاً لو وصلت الاعترافات إلى الدولار فهو في حد ذاته جريمة مستقلة وموضع اهتمامنا ويبدأ تحقيق آخر ونلقي القبض على المتورطين ومن يهرب أو لا نتمكن من الوصول إليه نذيع البحث عنه عبر نشرات شرطية ليصبح مطلوباً يجري اعتقاله أينما وجِد ولو في حادثة سير، وبهذه الطريقة نتابع عملنا لنفكك تلك الشبكات". ويشير الضابط إلى أن المسألة معقدة للغاية فهم يتعاملون غالباً مع يافعين يمتهنون ذلك الطريق الإجرامي "وهم يتنامون إلى حد ما انطلاقاً من قاعدة الكسب السريع بمعزل عن النتيجة ما يتطلب تحركات أكثر من سريعة ولكنها في ذات الوقت مربكة لأنها يجب أن تستند أولاً وأخيراً إلى اقتناع الناس بالإحجام عن ذلك الطريق".
في القانون السوري
يمنع القانون السوري تماماً التعامل بغير الليرة السورية في التعاملات التجارية ويشمل ذلك الدولار، واليورو، والين، والجنيه، والذهب وأي عملة أو شيء آخر باستثناء الليرة السورية، التي صار اليوم الدولار الأميركي الواحد يعادل 15 ألف ليرة منها.
وكانت المراسيم الجمهورية التي منعت التداول أوصلت العقوبة في بعض الحالات إلى سبع سنوات من السجن، وفي حال تزوير القطع الأجنبي، 20 سنة، قبل أن يصدر مرسوم تشريعي جديد في الأيام الأخيرة من يناير (كانون الثاني) الفائت يطرح صيغة مخففة تتيح للمتعامل بالتقدم لتسوية قانونية أمام القضاء، فإن سدد قيمة ما ضُبط معه من عملة تسقط عنه العقوبة القانونية والمدنية. أما إذا انتظر صدور حكم فسيكون ملزَماً بدفع ضعف قيمة ما ضُبط لديه من مبلغ بالعملة غير المحلية إضافة إلى الالتزامات المدنية والتعويضات المحكوم بها كما نص المرسوم الذي حمل الرقم (5) لعام 2024.
وتسمح القوانين النافذة بحيازة العملة الأجنبية مهما بلغ رقمها طالما أنها في سياق الحيازة فقط، والحيازة هي امتلاك القطع الأجنبي لغرض الادخار بعيداً عن الاتجار، لذا تكون الضابطة العدلية معنية بإعادة أي مبلغ أجنبي يُسرق من منزل إذا ما ألقي القبض على السارق، فطالما أن المبلغ في المنزل، أو حتى في الجيب، لا تكون هناك مشكلة قانونية إلا حين يخرج منه ولو دولار واحد بقصد شراء أي شيء.